الأمن المائي وأثــره عــلـى الأمـن الـقـومي العراقـي مقدمة يعد الأمن المائي أحد أهم محاور الأمن القومي لأي دولة، وتبرز أهمية الأمن المائي بوصفه من الموضوعات الاستراتيجية ذات العلاقة بالأمن الوطني والأمن القومي، لاسيما وأنه يمس وجود وحياه شعوبها وكيانها وسيادتها، ولأن المياه تعد أكثر الموارد الأساسية تجاوزا للحدود، فإن الدول تتسابق فيما بينها لتأمين قدر كافي من المياه لضمان الاستمرار بخططها التنموية، لذلك تسن البلدان تشريعات للمياه لاعتبارها من الأصول الوطنية، وفي ظل الظروف المتمثلة بالزيادة السكانية المستمرة وما تتطلبه هذه الزيادة من تخطيط مستقبلي هام لقطاع السكان والزراعة وغيرها من السياسات الهامة التي لها صلة وثيقة بالقطاع المائي. وفي ظل ما يمر به العراق من أزمات وما يواجهه من تحديات عدة فهو كغيره من الدول يعاني من أزمة نقص مياه حادة، نتيجة لما تمارسه الدول المتحكمة بمنابع أنهار العراق دجلة والفرات والزاب الاسفل وديالى وروافدهما من سياسات مائية لا تتناسب مع مصلحة العراق وتضر بأمنه المائي الى حد ما، اذ تريد هذه الدول والمتمثلة بتركيا من الشمال وايران من الشرق استخدام المياه كورقة رهان رابحة في كل المفاوضات كعنصر ضغط لتحقيق اهداف ومآرب سياسية ولكون العراق يعتمد بشكل اساسي على ما يرد من مياه من هذه الدول. الاشكالية: تبرز اشكالية ورقتنا البحثية من خلال ما تمارسه دول المنبع من سياسات مائية واجراءات، متمثلة بتضييق الخناق من خلال بناء السدود وانشاء منشآت كبيرة وتشغيلها على الانهار وتحويل روافد العديد منها، وعدم اعترافها بالاتفاقيات المبرمة بين دول الأنهار والدول المتشاطئة وعدم مراعاتها للقانون الدولي، وهو ما أثر على مستقبل مياه العراق ومشاريع تطويرها، وهذا يتطلب البدء بالضرورة بالعمل المشترك وانتهاج سياسات وحوارات جديدة مع دول المنبع، بهدف الوصول الى اتفاقيات حول تقاسم المياه وفقا للقانون الدولي الخاص بالأنهار الدولية. الفرضية: ان الفرضية التي تقوم عليها ورقتنا البحثية هي ان الشعوب تمتلك حق تقرير مصيرها، وتتحدى كل اوجه الهيمنة والاستعمار، ونظرا لقيام الدول التي تنبع منها أنهار وروافد العراق والمتمثلة بتركيا وايران باستخدام المياه كورقة ضغط ومساومة في علاقاتها مع العراق دون النظر الى مصلحته وامنه المائي، فإن العراق يعتبر ان الانهار المشتركة معه هي انهار دولية، وبالتالي لا يحق لأي من دول المنبع أن تقوم بما ترغب من مشاريع مائية عليها دون التوافق المسبق مع الدول الأخرى التي يمر فيها الانهار، وان استمرار هذه الدول بسياساتها المائية الضارة في العراق ستخلق أزمة مائية سياسية محكمة، لذا تتطلب هذه الاشكالية استراتيجية للتحرك ومواجهة هذا الخطر، والعمل على الاستثمار الأمثل للمياه في المجالات كافة، والحذر من تأثير المخاطر الخارجية مع وضع خطط متنوعة مشتركة لإدارة هذا الملف. أهمية الدراسة: يعتبر الكثير من الباحثين والمختصين في الشؤون الاستراتيجية ان المياه تعد عنصرا هاما من عناصر الصراع في القرن الحالي، لما ستلعبه من دور كبير في استمرار عمليات التطور والتقدم الصناعي والتنموي وفي تحقيق خطط الدولة في اغلب القطاعات، تنبع اهمية الدراسة من كون الموضوع له اهمية بالغة على الصعيد الاقليمي والعربي على وجه الخصوص، كما ومن الممكن ان تعمل هذه الدراسة على تنمية وزيادة وعي المجتمع العراقي بأهمية المياه ودورها، كما وقد تساهم الدراسة في التعرف على مشكلة المياه وايجاد الحلول لها خاصة بعدما اصبح الامن المائي ضرورة لابد منها في اولويات الامن القومي لعديد من الدول. الهيكلية: اشتملت الورقة البحثية على مقدمة وخاتمة وثلاث مباحث وهي كالآتي: المبحث الاول المطلب الثاني: تناول استراتيجية تركيا المائية وانعكاساتها على امن العراق المائي. المطلب الثالث: احتوى على اهم المشاريع التركية المقامة على نهري دجلة والفرات. المبحث الثاني المطلب الاول: ركز هذا المطلب على سياسة ايران المائية وتأثيرها على علاقتها مع العراق. المطلب الثاني: تحدث هذا المطلب عن النزاع العراقي الايراني حول المياه المشتركة واهم الاتفاقيات المعقودة بشأن تنظيمها. المبحث الثالث المطلب الاول: تناولنا فيه اهم الرؤى الاستراتيجية لإدارة المياه. المطلب الثاني: توصلنا به الى توصيات عدة في ادارة ملف المياه العراقية المشتركة مع دول المنبع. المبحث الاول الازمة المائية في العراق يقع العراق شرق الوطن العربي وتحده إيران من الشرق وتركيا من الشمال، وتبلغ مساحته 437.072 كيلومترًا مربعًا، ويبلغ عدد سكان العراق حاليًّا 39.33 مليون نسمة، يسكن حوالي 25% منهم في المناطق الريفية، وتبلغ الكثافة السكانية 5 أشخاص لكل كيلومتر في أجزائه الغربية، وتزداد هذه النسبة إلى 170 شخصًا تقريبًا لكل كيلومتر مربع في الأجزاء الوسطى، ويشترك العراق بحوالي 50 نهراً مع بلدي الجوار تركيا وإيران، أغلبيتها مع الأخيرة، لكن الأنهار القادمة من تركيا تضخ كميات تفوق الـ40 نهراً مشتركاً بين العراق وإيران. (1). وكان العراق ولوجود نهري دجلة والفرات والروافد والانهار الاخرى النابعة من مناطق الدول المجاورة، يعتبر من الدول الغنية بموارده المائية حتى السبعينات من القرن الماضي، وقد اقدمت دولتا الجوار خلال السنوات العشرة الأخيرة باستخدام سياسات استراتيجية لتخزين مياه السواقي المنهمرة من جبالها، وإعادة توزيعها في الداخل، على حساب جريانها التقليدي نحو الأراضي العراقي السهلية(2). اذ بدأت سوريا وتركيا بناء السدود على نهري دجلة والفرات مما تسبب بنقصان كبير في تصاريف الأنهار الواردة إلى العراق مؤثرة على خططه التنموية وفي مجالات عدة، ونتيجة لذلك بدأت نوعية وكمية المياه بالتردي، وتسبب هذا الوضع باهتمام أكبر بالحصص المائية لكل دولة متشاطئة في حوضي نهري دجلة والفرات لما لها من تأثير كبير على الأمن الوطني واستراتيجيات التنمية لهذه الدول، ويمكن ان نعتبر ذلك بداية لحدوث ازمة ونقص حاد في المياه العراقية(3). كما ان الموارد المائية في العراق تعتمد بصورة رئيسية على نهري دجلة والفرات اللذين يجريان من تركيا ثم سوريا شمالًا باتجاه الجنوب، وايران شرقا، ويلتقي النهران جنوب العراق في القرنة ليشكلا ما يُعرف بشط العرب، ويأتي معظم مياه النهرين من تركيا بنسبة (71%)، وتليها إيران (6.9%)، ثم سوريا (4%) والمتبقي من داخل العراق من المياه الجوفية والتي تكون كمياتها محدودة جدا، وكانت تصاريف هذه الانهار طبيعية قبل العام 1973، أما بعد ذلك فإنها تأثرت ببناء السدود عليها وتغيير بعض مجاريها لمناطق اخرى كما يحدث في الجانب الايراني حاليا، اذا انه يتبين من خلال ما اجرته منظمة الإسكوا (ESCWA) تحليلًا لتصاريف الانهار خلال الفترة من 1931 ولغاية 2011 ان كميات هذه المياه بدأت تتناقص بعد ذلك حتى وصلت إلى 19.5 بليون متر مكعب من العام 1974 وحتى العام 2005، بعدما كانت بنسبة 21.3 متر مكعب، وكما ذكر سابقا ان بناء السدود وتغيير روافد الانهار قد ساهم في تقليل المياه بكميات وبنسب كبرى ولسنوات متتالية(4). اسباب الازمة المائية المتنوعة في العراق هناك ضرورة للاطلاع على الاسباب المختلفة والمتنوعة لحدوث الازمة المائية التي يمر بها العراق ويمكن ان نقسم هذه الاسباب على النحو التالي: 1. الاسباب الخارجية يمكن ان نعتبر ما قامت به دول المنبع من مشاريع مائية على الانهار والروافد وفروعها المشتركة مع العراق هو أحد الاسباب الخارجية التي زادت من تفاقم ازمة المياه العراقية، اذ عُقدت اتفاقيات ونظمت اجتماعات عدة حول المياه والمشاريع المائية خلال الفترات التي كانت فيها المنطقة تحت الحكم العثماني، ومن ثم الهيمنة البريطانية والفرنسية، وأول اتفاقية وقعت بين بريطانيا وروسيا وإيران وتركيا كانت عام 1913 حول تنظيم نهر شط العرب وبعدها وقعت فرنسا وبريطانيا اتفاقية لتنظيم استخدام مياه نهري دجلة والفرات عام 1920، تلتها اتفاقية ثالثة عام 1930، وعندما حصل العراق على استقلاله عام 1932 وقعت اتفاقيتان إحداهما عام 1937 مع إيران حول شط العرب والأخرى مع تركيا عام 1946 (5). وبعدها توالت اجتماعات بين الأطراف بدون التوصل إلى أي اتفاق وبدأت سوريا ببناء سد الطبقة، وعند العام 1975 تفاقم الخلاف حول مياه نهر الفرات بين العراق وسوريا ووصل الأمر إلى شفا الحرب لولا توسط المملكة العربية السعودية، وتوالت الاجتماعات إلى الثمانينات بدون التوصل إلى أية اتفاقية ملزمة للدول المتشاطئة، ثم تفاقم الخلاف بين تركيا وسوريا، عام 1987، عندما اتهمت تركيا النظام السوري بمساعدته للمتمردين الأكراد وهددت بقطع المياه عن سوريا ثم تم التوصل إلى اتفاقية لحل المشكلة. واستمرت تركيا ببناء السدود على الفرات ودجلة وعند بناء أي سد يزداد الخلاف السياسي بين تركيا وسوريا والعراق(6). كما وان هناك اسبابا خارجية اخرى غير تلك الاسباب المتعلقة بمشاريع دول المنبع المائية، وان هذه الاسباب هي ما تتعلق بالتغيرات المناخية التي شهدها العراق، اذ تدل الدراسات على ان منطقة الشرق الأوسط هي من اكثر المناطق تعرضا او تأثرا بالتغيرات المناخية، كما ووضحت هذه الدراسات أن تصاريف الأنهار في منطقة الشرق الأوسط ستقل نتيجة التغيرات المناخية، كما ويبين العديد من الباحثون أن فترات هطول الأمطار ستكون قصيرة نسبيًّا، أي إن الأمطار قد تتساقط بتركيز عال في فترة قصيرة، وإن هذه الأمر سيؤدي إلى تعرية التربة وبالتالي يؤدي إلى تدهور الإنتاج الزراعي، كما أن هذه التربة المنجرفة ستترسب في خزانات السدود مما يؤدي إلى تقليص القدرة التخزينية لهذه الخزانات، إضافة إلى ذلك فإن كمية المياه في الخزانات الجوفية ستقل حيث إن كمية المياه المترشحة من الأنهار إلى هذه الخزانات ستنخفض نتيجة تقلص فترة هطول مياه الأمطار(7). الاسباب الداخلية تتنوع الاسباب الداخلية التي ادت الى تفاقم ازمة المياه في العراق، وهذه الاسباب قد تتعلق بالسياسات الداخلية المتبعة في آلية استخدام المياه وادارتها، او في اشكالية شبكات توزيع المياه والصرف الصحي وشبكات توزيع مياه الشرب رديئة جدا حيث إن كفاءتها لا تزيد عن 32%، والطلب على المياه يبلغ 11 مليون متر مكعب يوميًّا بينما التزويد المائي الفعلي يبلغ نصف هذه الكمية، أما بالنسبة لشبكات الصرف الصحي فإن 14 مدينة من مجموع 252 مدينة لها خدمات صرف صحي، وكميات المياه المعالجة تخدم 8% فقط من السكان، علمًا بأن شبكات الصرف الصحي مهترئة وتحتاج إلى صيانة وإعادة تأهيل حيث يتسرب 70% من مياه هذه الشبكة إلى الأنهار بدون تنقية، وقد تسببت رداءة شبكات توزيع مياه الشرب وشبكات الصرف الصحي باختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه الشرب وانتشار الأمراض مما انعكس ذلك سلبا على نوعية المياه المراد استخدامها لأغراض اخرى(8). وتعد سوء ادارة الموارد المائية من احدى اهم الاسباب التي زادت من تعقيد مشكلة المياه في العراق، وقد تسبب غياب الأهلية بعدم قيام وزارة الموارد المائية العراقية ببذل أي مجهود لمحاورة دول الجوار لتأمين حصة العراق المائية إطلاقًا. أما على الصعيد الداخلي، فقد تركت الوزارة عمليات صيانة مشاريع الري والبزل وحاليًّا لا يعمل أكثر من 15% من هذه المشاريع، كما قامت الوزارة بمنح حصص مائية لأراض خارج مناطق الإرواء وتحوير شبكات الري من أجل ذلك خلافًا لكل التعليمات ولتحقيق مصالح شخصية، وغابت أية خطة لتشغيل السدود مما أدى إلى انخفاض خزين المياه في هذه السدود إلى أدنى مستوياته، وإضافة إلى ما تقدم قامت الوزارة بغمر أراض ضحلة كالأهوار مما أدى إلى زيادة الملوحة في هذه المناطق، وهذه تمثل اجراءات سلبية أثرت وستؤثر مستقبلا على خطط الادارة المائية وفي حفظ الامن المائي للعراق(9). المطلب الثاني استراتيجية تركيا المائية وانعكاسها على امن العراق المائي وضعت تركيا اهدافا استراتيجية تدعم من خلالها قرارها بتعزيز مكانتها وقوتها الدولية والاقليمية واعادة وضعها السياسي والاستراتيجي في المنطقة، لذا وضعت على رأس اهدافها خلق نفوذ مؤثر في منطقة الشرق الأوسط، وقد وجدت من الكميات الهائلة من المياه التي في حوزتها وسيلتها لتحقيق اهدافها المنشودة في تطوير سياستها الداخلية من جهة، وتجسيد اهدافها الاستراتيجية في تحقيق دور اقليمي مؤثر من جهة اخرى. تسعى تركيا دائما الى المماطلة والتسويف فضلا عن اطالة المفاوضات التي تتم لإدارة المياه المشتركة مع دول المصب، فهي تسعى بذلك لتحقيق هدف خفي في سياستها المائية في حوضي دجلة والفرات ألا وهو تغليف مسألة المياه بإطار سياسي، لكي يتيح لها ذلك الاستمرار بسياسة بناء المشاريع الاروائية على حوضي دجلة والفرات دون الالتفاف الى حقوق العراق وسوريا واضعا اياهم امام الامر الواقع، بعد ان هيأ لها الوضع الجغرافي عاملا استراتيجيا تستطيع من خلاله التحكم بمياه النهر واستغلاله كورقة ضغط او مساومة في علاقاتها مع دول المصب والعراق احداها(10). كما وتسعى تركيا الى توظيف هيمنتها الاستراتيجية على منطقة الشرق العربي ودول الجوار الجغرافي عن طريق استغلال علاقاتها الدولية، هادفة بذلك قيام امبراطورية تركية جديدة قوامها المياه، وان في هذا المسعى دورا للولايات المتحدة والكيان الصهيوني اللذان قدما لتركيا حلولا لتحقيق اهدافها المنشودة، عن طريق نصح تركيا ان تعمل على تقسيم الفرات بينها وبين سوريا�