لم يحدث، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن تمنّعت «السيدة الحديدية» على محبيها كل هذه المدة. وبعد 9 أشهر من الإغلاق بسبب المحاذير الصحية لجائحة «كورونا»، عاد برج «إيفل» لاستقبال الزوار منذ الواحدة من ظهيرة أمس. وقد سبقت الافتتاح سلسلة من الأشغال لمراجعة مصاعد البرج وتدقيق وضعية طوابقه، استغرقت شهراً كاملاً. لكن العاملين في مرافق البرج والبالغ عددهم 350 شخصاً كانوا سعداء لاستعادة أشغالهم بعد أشهر من البطالة.
وبحسب شروط الوقاية، فإن العدد المسموح به للزوار كل يوم لن يزيد على 13 ألفاً، وهو نصف ما اعتاده البرج في السابق. ولا يمكن الدخول إلى محيطه إلا لمن يحمل شهادة التطعيم ووفق حجز إلكتروني مسبق، تماشياً مع تعليمات ارتياد المرافق الثقافية.
قبل الجائحة، كان المعلم الأشهر للعاصمة الفرنسية قد احتفل بمرور 130 عاماً على تأسيسه. وبلغ عدد زائريه 7 ملايين شخص في عام 2019، وهو وليد فكرة تشبه المغامرة نبعت في عام 1889، عندما كانت باريس تستعد لاستضافة المعرض الكوني وعليها أن تقيم أجنحة تليق بسمعة فرنسا ونهضتها المعمارية والفنية والأدبية. ولم يكن معرض باريس هو الأول، فقد سبقه معرض لندن عام 1851 وكان رائعاً بكل المقاييس، لذلك لا بد للعاصمة الفرنسية أن تقدم ما تتفوق به على عاصمة الإنجليز. وفي عام 1855 أقامت باريس معرضها الأول داخل قصر من الزجاج جرى نصبه في حدائق «الشانزليزيه»، ثم تلاه معرض ثانٍ سنة 1867، وكان أفخم من الأول، حيث أقيم في حقل «مارس» الذي ينتصب فيه البرج حالياً.
وفي عام 1878، بعد الثورة الفرنسية، أرادت الحكومة أن تثبت للعالم أن الجمهورية الوليدة قادرة على مضاهاة ما كانت تقدمه الملكية من إبداعات. وكانت فكرة إقامة معرض كوني جديد قد بدأت تدور في الأذهان منذ عام 1880، لا سيما أن المعرض سيكون فرصة لإعادة دوران عجلة الصناعة وتنشيط الاقتصاد. وجرى استعراض عدة اقتراحات للتوصل إلى مشروع يدهش الزوار ويسليهم ويترك لديهم ذكرى لا يمكن نسيانها، عدا عن أنه يعيد وضع فرنسا في مصاف القوى الكبرى.
لم يكن من الجديد استخدام المعدن في بناء الأجنحة المختلفة. لذلك بزغت فكرة المراهنة على الارتفاع. حيث كانت المباني ذات السقوف العالية والأبراج المرتفعة مقتصرة على الكنائس والكاتدرائيات. ما الذي يمنع من تشييد برج لا علاقة له بالدين، ويكون الصعود إليه لغرض التسلية لا غير؟ وهكذا استقر على إقامة برج معدني بارتفاع 300 متر. ووقع الاختيار على المهندس والمقاول غوستاف إيفل لتنفيذ المشروع. ورغم أن إيفل يمتلك خبرة في أمور الأبنية المعدنية وكل ما يتعلق بالحدادة، فإنه لم يكن يعمل وحيداً، بل شاركه التخطيط رفيقاه المهندسان إميل نوغييه وموريس كوشلان. واستمر التفكير والتخطيط ثلاث سنوات، وجيء بمهندس رابع هو ستيفان سوفيستر لإضفاء الملامح الجمالية على الهيكل الحديدي. وجرى صب قوالب الحديد في مصهر يقع بضاحية «لافلوا» قرب باريس، وفي غضون سنتين انتهى التنفيذ، وكان ذلك زمناً قياسياً لبناء برج بهذه المواصفات.
وفي ظهيرة يوم الأحد الحادي والثلاثين من شهر مارس (آذار) 1889، أصبح البرج جاهزاً للتدشين. وكان عدد من العمال يواصلون بعض الأشغال التكميلية فيه ونصب المصاعد الموجودة عند أطرافه. أما أول شخص ارتقى الأدراج حتى القمة مهندسه غوستاف إيفل. ومن هناك لوّح بالعلم الفرنسي. ثم لحق به عدد من مساعديه وبعض الشخصيات الحكومية وموظفون من بلدية باريس. وفي الأسفل كانت الاحتفالات الشعبية جارية بمشاركة 300 عامل ساهموا في تحقيق الفكرة.
وكان البرج، يومذاك، هو الأعلى في فرنسا، بل في العالم كله. ولم تكن ناطحات السحاب في نيويورك قد ظهرت بعد. وقد دهنوه في البداية باللون الأحمر، بسبب احتواء الطلاء على مادة حافظة من التقشر. وخلال 130 عاماً من عمره تغير اللون أكثر من مرة حتى استقر على البني الكامد. ومع أواخر القرن الماضي استحق البرج لقب «السيدة الحديدية».