لديمقراطية الدليفري: قل نعم ولا تصدق
كل من يقول لك ان العملية الديمقراطية التي رسمها الاحتلال الأمريكي يمكن لها أن تنهض بالعراق وتحقق لشعبه حياة رغيدة، قل له نعم ولا تصدق، فالحال الذي نحن فيه هو ما يريده تماما أعداء الأمة الذين تعرفونهم، بلد لا هو بالميت ولا هو بالمتعافي، عليل يعاني شتى الأمراض، ما يجعل العراق ليس خارج التوازنات، بل خارج التاريخ، وسيعملون بشتى الطرق على ترسيخ هذه الواقع، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لابد من تدمير كل بلد يمكن أن يشكل تهديدا لمصالحهم راهنا او مستقبلا، او على أقل تقدير تحييده من أن يكون قوة ردع ازاء سياسات الهيمنة والتوسع.
وما كان لنا ان نقول هذا الكلام في سنوات التغيير الأولى بالرغم من قناعتنا الراسخة بما سيكون عليه الحال، ففرحتنا بالعراق الجديد جعلتنا نسلم بالاحتمالات، عسى أن تأتي الامور بحسب الهوى، ولكي لا يتهمنا من تصدوا للتغيير بموقف عداء غير موضوعي، وان الحكمة تقتضي الانتظار بضع سنين، لكي يأخذ القائمون عليه فرصة كافية، وها نحن انتظرنا ما يقرب من العقدين، وليس من وصف مناسب للعملية السياسية الجارية سوى انها فاشلة بامتياز، والذي لازال يبني آمالا على الدور الأمريكي واهما، ولا يفقه من الأمر شيئا.
فعراق ما قبل الصناعة هدف أسمى، وليس من وسيلة ناجعة لتحقيقه من ديمقراطية هشة تتيح للفاشلين والمغامرين والراغبين في الاستثمار السياسي، ومن ملأت الأحقاد قلوبهم، والذين مكانهم المزابل ولا يرقون الى أكثر من ذلك اطلاقا، لكل هؤلاء والذين يتعذر وصفهم فتحت ديمقراطية الدليفري الأمريكية الأبواب لهم ليعيثوا في البلاد فسادا وتخريبا وحرقا.
هذه ليست نعوتي، بل هذا ما يقولونه عن أنفسهم. ومثل هؤلاء لا يمكن لهم أن يبنوا بلدا بحجم العراق وعظمته وتاريخه ودوره الحضاري، سيظلون صغارا طالما لم يتوافروا على الايمان الحقيقي بالدور القيادي الذي يليق بالعراق.
لن نستعيد عافيتنا الا بقادة يتسمون بالشجاعة والأمانة والاستعداد للتضحية، والارادة الصادقة للتغيير، فالذي يخشى على نفسه من الموت او يريد الحفاظ على كرسيه وليس العراق سيتحول الى كرة يتقاذفها الغرباء بخبرتهم ومؤسساتهم الرصينة، بينما مازال جماعتنا يعيشون في مرحلة الطفولة السياسية، لا يعرفون أحجامهم، ولا يُخجلهم السلبي من النعوت التي يطلقها الناس عليهم، ولا يريدون التنحي عن مهمة تاريخية لمن له القدرة على التغيير والاستعداد للتضحية.
كونوا على يقين ان ديمقراطيتنا وبشكلها الراهن لن تنتج شخصيات سياسية جديدة بمقدورها احداث تحولات يتطلع لها العراقيون، فالعملية الانتخابية لا تعدو أن تكون عملية تدوير للوجوه القديمة لا أكثر، وحتى الجديد فيها لن يختلف بشيء عمن سبقه.
أكاد أجزم ان اصلاحا سياسيا يعيد العراق الى وضع طبيعي أمر من بين المستحيلات راهنا، لأسباب منها: ان قوى اقليمية ودولية لا تريد للإصلاح ان يحدث، فذلك يعني خسارة العراق كأداة من أدوات ادارة أزماتهم، يناورون به بحسب مواقف الأزمات، ثم ان القائمين على العملية السياسية بالأصل غير مؤهلين للإصلاح، فصرخات الاصلاح ليست بالجديدة، فقد تعالت منذ سنوات، وان المراهنة على الانتخابات القادمة كمن يسند ظهره الى كومة قش في صراعه مع الخصوم.
ومع قناعتي بان وضعنا الراهن من الانهيار بمكان يغدو معه الاصلاح غير كاف، ولا بد من اعادة تأسيس لعملية سياسية جديدة تهدف الى بناء دولة مدنية، تتوقف فيها هذه العملية، وتسلم خلالها مقاليد الأمور للجيش لمرحلة انتقالية، ريثما ننتهي من صياغتها بمواصفات عراقية محكمة يرسمها قانونيون وأكاديميون، بعيدا عن أهواء الأحزاب والتيارات السياسية وتيجان الرؤوس.
وكأني الآن أسمع قهقهات البعض من كلامي، فلن يتخلى من لم تخطر بباله حتى في الأحلام أن يكون مديرا وان احترق العراق كله، ومن يقول لك عكس هذا الكلام قل له نعم ولا تصدق.
..........................................................................................................
اضف تعليق