comparemela.com


صراط أم صراطات.. بين الفقيه والصوفي
يسعى الفقيه الاسلامي أولا الى توكيد المعرفة المطلقة وفق مبادئها وقواعدها لغرض الاستدلال من خلالها على حقها ودورها في الكشف عن ضرورة واحدية الصراط المستقيم ونفي إمكانية الصراطات المستقيمة، ويلجـأ في توكيد واحدية الصراط المستقيم الى أسس تلك المعرفة الأولية الفطرية - البدهية وشريكها الوحي في إتمام وإكمال جوهرها وعرضها، فالمعرفة المطلقة مصادرها في الفطرة والوحي وهي تستند في مصدريتها في الفطرة الى مبادئ أو قواعد تفرعت عن تلك المبادئ، وأهم هذه القواعد التي تشتغل أساسا في علم أصول الفقه وعلم الفقه والتي تؤسس ضرورة واحدية الصراط المستقيم/الصواب هي:
1- إستحالة الترجيح بلا مرجح
2- النقيضان لا يجتمعان
3- انقسام البرهان الى برهان لمي وبرهان إني
هذه القواعد تجعل من المعرفة واحدة في صوابها غير منقسمة على ذاتها وغير منقسمة على تحديد صوابها تبعا لذلك وغير متعددة في أجزائها بين الصواب والخطأ، ويضيف الفقيه الاسلامي الى تلك المعرفة المطلقة كافة المستقلات العقلية التي تحكم بذاتها بالحسن والقبح على الأشياء والصراطات وكأن تلك المستقلات المعرفية مصممة بأحكامها في داخل عقل الانسان ابتداء منذ الخلق الأول، وهو ما ينتج عنه بالضرورة العقلية والفطرية – البدهية واحدية الصراط المستقيم.
فالمعرفة الصافية – الحقة هي المعرفة الواحدية التي تنتجها تلك المبادئ والقواعد الأساسية في المعرفة الانسانية وينتج عنها محددات واشتراطات واحدية الصراط المستقيم في الصواب إذا تعددت واختلفت تلك الصراطات وفق الفقيه الاسلامي. لا سيما وان الصراط المستقيم في بعض الروايات جاء تعريفه بالمعرفة أو الطريق الى المعرفة، فقد روى الفقيه الاسلامي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام في الصراط هو (الطريق الى معرفة الله عز وجل) وهو الجوهر الذي انبثقت منه المعرفة الاسلامية بشكل ومضمون عام وقد شكلت المستقلات العقلية جزءا مهما وأساسيا في هذه المعرفة الدينية.
وقد لعبت المستقلات العقلية دورا أساسيا ومؤثرا في استنتاجات وتوقعات الفقيه الاسلامي لا سيما في البرهنة على واحدية الصراط المستقيم واستحالة تعدد الصواب في الصراطات المتباينة، وهو ما ينتج عنه اختصاص النجاة بالصراط المستقيم وبالواحدية في هذا الصراط الذي يدين به الفقيه الاسلامي. ولعل الأبرز في هذه المستقلات هي مقولة الحسن والقبح العقليين.
وقد تبنت المدرسة الإمامية والمعتزلية هذه المقولة الكلامية فـ "الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل" وعرفت كلاميا بالحسن والقبح الشرعيين وعلى النقيض من المقولة الأشعرية في "الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع" وعرفت كلاميا بالحسن والقبح الشرعيين. ووفق المدرسة الإمامية وبناءا على هذه المقولة فإن الصراط الحسن يبدو واضحا للعقل وأن الصراط القبيح يبدو ظاهرا للعقل.
يقول الفقيه السيد مرتضى الشيرازي (أن الهداية لا تتوقف على الدليل العقلي فقط بل أن الكثير من الناس يصلون الى الحقائق والى الصراط المستقيم عبر الطرق العقلائية) وهذه الطرق العقلائية الفطرية تنتمي الى المستقلات العقلية، ويستشهد بإيمان عدد من الأجانب بالاسلام والقرآن الكريم بناءا على تجاربهم العقلائية الخاصة بهم، ومن هنا جاءت المحاججة القرآنية وفق الفقيه الاسلامي تستند وتشير الى العقل في الحكم على الوقائع والأشياء لا سيما وأن الحسن والقبح لا يتعلق بالطبائع من وجهة نظر الفقيه الاسلامي وانما هي مركوزة في الذهن أو العقل الفطري–البدهي.
وإرجاع الحسن والقبح الى هذا العقل–الأصل وليس الى الطباع إنما يعكس هدفه في إخراجهما من النسبية باعتبارهما أصول في هذا العقل الفطري–البدهي ذي المعرفة المطلقة–الحقة، بينما تفاوت الطباع واختلافها في الميل الى الحسن والى القبيح وعدّ الحسن قبيحا أحيانا وعدّ القبيح حسنا أحيانا في الطباع التابعة والخاضعة الى الأمزجة والرغبات المختلفة والمتعددة استنادا الى الاختلاف والتعدد في الظرف المكاني والمتغير الزماني، وهو ما يدعها في دائرة النسبية وأحكامها وينتج عن نسبية الطباع وتعدد الظرف المكاني والمتغير الزماني نسبية الصراطات وتعددها، بينما الحسن والقبح بسبب الطبيعة الواحدية والثابتة لهما وفق العقل الفطري–البدهي وشريكه الوحي في المعرفة المطلقة–الحقة يؤدي الى امتناع التحول المتناقض فيهما ولهما ويؤدي بحكم الضرورة البدهية وتعليم الوحي الى الثبات والمطلقية في واحدية الصراط المستقيم.
ولعل الفقيه الاسلامي يصدر في مثل هذه الأحكام في المعرفة المطلقة وامتزاج العقل بالحسن ونفي القبح عنه عن معتقدات إيمانية أو شرعية وليست بالضرورة عقلية استدلالية أو برهانية، فالإسلام، الوحي، القرآن يحيل المعرفة المطلقة–الحقة الى الله تعالى وأن هذه المعرفة الحقة قد بدت واضحة وظاهرة في الكتاب العزيز الذي نزل به الروح الأمين واستدلال القرآن الكريم ومحاججته الدائمة المستمرة بالعقل منحت فكرة المعرفة المطلقة–الحقة الى العقل.
لكن العقل الاسلامي وفق ايمانه هذا قد منح ذاته تلك المعرفة المطلقة والحقة باعتباره عقلا مبنيا ومستنبطا من الوحي–القرآن الكريم وبذلك صار مشاركا للعقل الفطري–البدهي فصار بذلك عقلا يمتلك أو تصدر عنه دائما المعرفة المطلقة والحقة وصار الصراط الذي يسلكه صراطا مستقيما لأنه صار يصدر عن هذه المعرفة المطلقة–الحقة التي يتشارك فيها العقل الفطري–البدهي والوحي–القرآن الكريم واللذان يحيلان المعرفة المطلقة–الحقة بمجملها وتفصيلها الى الحق تعالى.
لكن تعدد أراء المفسرين في القرآن الكريم وتعدد التأويل فيه يكشف عن تعددية الفهم وتعددية المعرفة الدينية–الاسلامية وبذلك يكشف عن نسبية هذه المعرفة وحدودها الممكنة في العقل الإسلامي، فهي معرفة غير مطلقة مما يتيح فكرة تعدد الصراطات في الاسلام وفقا أو استنتاجا عن تعدد أراء التفسير ورؤى التأويل في الاسلام وهو ما يفسر تعدد الاتجاهات المذهبية والكلامية لدى المسلمين بل تعددها تفسيرا وتأويلا وحكما في المذهب الواحد.
واذا كان استناد العقل الاسلامي الى القرآن الكريم في تبرير ذاته الاسلامية وتأصيل شرعيته الدينية فانه والحال هذا يتأسس وفق الشرع أو استنباطا منه وهو ما يسعى دائما هذا العقل الى التشديد والتأكيد عليه وبذلك فان الأصل في العقل الاسلامي هو الشرع وبالتالي فان ماحسنه الشرع فهو الحسن وما قبحه الشرع فهو القبح وهي مقولة الأشاعرة، وهو قول يؤدي بطبيعته وبنتيجته الى التشديد على واحدية الصراط المستقيم فالدين عند الله حصرا هو الاسلام وهو ماتنتهجه أيضا عقيدة ومذهب مقولة الحسن والقبح العقليين.
لكن الى أي مدى يكون ما حسنه الشرع وماقبحه الشرع هو مطلقا وليس نسبيا في الحسن والقبح كما تقول به الكلامية الإمامية والمعتزلية اضافة الى مطلقه في الكلامية الأشعرية.
ولعل أقرب مثال تتوضح فيه الفكرة النقدية لكلا المقالتين الكلاميتين لاسيما مقولة الحسن والقبح العقليين هو نظام الزواج – النكاح في الشرع الاسلامي مقارنة بالشرائع الأخرى.
فقد حرم الشرع أنظمة في هذا الزواج كانت سائدة قبل الاسلام بين الوثنيين والدينيين من أشباه أهل الكتاب وشيوع الزواج من المحرمات بين الوثنيين وأشباه أهل الكتاب من الأمم المتقدمة الحضارية والبدائية لم تكن تستقبحها عقولهم ولا يمكن نفي العقل عنهم فقد كان فيهم الحكماء والعلماء ولهم الدول والحضارات الكبرى في التاريخ القديم لا سيما مصر وفارس والصين والهند بل حتى الإغريق.
إذ نجد إباحة الزواج بين الأخوة والأخوات في الديانة الزرادشتية وهي من ديانات أشباه أهل الكتاب وكان فيهم الحكماء والملوك العدول في أيران القديمة وأباح الشرع في الاسلام التوارث بينهم وفق دينهم رغم عدم شرعية المولود من هذا الزواج في الاسلام وعدم استحقاقه الارث لكن القاعدة في الشرع تنص على "ألزموهم بما ألزموا أنفسهم".
وكانت عادة الزواج من الأخوات معهودة ومقبولة في مصر الفرعونية وكانت فكرتهم تدور حول حفظ دمائهم الملكية وعدم السماح لها بالاختلاط بدماء العامة من الشعب، والفراعنة أصحاب حضارة وحكمة وعلوم ودولة عظيمة في أوانها التاريخي القديم.
وقد كان العدد الكبير من المجتمعات البشرية البدائية تطبق صيغا من الزواج–النكاح وتنظم علاقات جنسية من خارج الزواج تأنف منها وتستقبحها وتحرمها المجتمعات الدينية الكتابية أو التوحيدية لكن لم يستقبحها لديهم العقل الفطري، وقد ذكر الانثروبولوجيون والرحالة المستكشفون صورا من هذه العلاقات المباحة والمشروعة في تلك المجتمعات ومنها في سكان أستراليا الأصليين يباح للمرأة إذا غاب عنها زوجها أن تعيش مع رجل أخر تختاره بلا استقباح عقلي لهذا التصرف، وفي كثير من المجتمعات البدائية يباح للزوج أن يعير زوجته لمن أراد من أصدقائه وضيوفه وهي من باب الكرم في هذه المجتمعات وقد كان يحدث مثل هذا في أثينا مدينة الحكماء ويقال أن سقراط الحكيم أعار زوجته الى صديقه اليساب، وهي صور تؤشر أو تصدر عن نسبية الطباع وينتج عنها نسبية الأخلاق فهل كان يحسنها العقل أو يقبحها قبل الشرع؟، وفي الهند كانت عروس الملك تبقى ثلاث ليال مع الكاهن في مخدعه ويكافئه الملك بخمسين قطعة من الذهب، وفي الصين القديمة كانت العروس لا تزف الى زوجها قبل أن تعرض على الملك ويمارس الجنس معها علما أن الصين كانت حضارتها ودولتها من أعظم حضارات ودول العالم القديم، ومع هذا لم يحكم العقل الحضاري والحكمي في هذه الدول الكبرى باستقباح تلك النظم وعدم حسنها وهو ما تنسبه نظرية المعرفة المطلقة والفطرية–البدهية الى العقل قبل الشرع.
وكان هناك نوع من الزواج سائدا في المجتمعات البدائية وفي مناطق مختلفة من أنحاء الأرض وهو ما يطلق عليه زواج الأجرة حيث تعاشر المرأة المتزوجة رجلا أخر أو أكثر بأجر مع احتفاظها بزوجها المباشر وهذه المعاشرة الجنسية قد تكون مباركة من قبل الزوج والأهل والمجتمع –راجع الزواج في الشرائع، هند المعدللي–.
وقد ظلت هذه الأنواع من الممارسات الجنسية منتشرة الى هذا اليوم في المجتمعات الحديثة لكنها انتزعت منها الشرعية وظلت سائدة ضمن العلاقات اللاشرعية وأحيانا اللاقانونية صار يطلق عليها البغاء أو الزنا، وهكذا نجد أن العقل الفطري–البدائي والحضاري لم يمنعها فضلا عن أنه لم يستقبحها هذا إذا لم نقل كان يحسنها لاسيما في تقنينات الدماء الملكية.
وأما قبحها وتحريمها فقد كان بالشرع الالهي – التوحيدي مما يؤكد ان الأصل في القبح والحسن هو الشرع وليس العقل مما يدع المعرفة العقلية معرفة نسبية وغير مطلقة وهو ما يقوض الأصل الذي تستند اليه نظرية واحدية الصراط المستقيم في العقل الفطري – البدهي وفي المستقلات العقلية. وهي مناقشة نظرية بطبيعة الحال لكنها في الجانب العملي تكشف عن ارتهان العقل بإرادة بشرية مسبقة تحكمه وتسيره مسبقا ونتيجة امتزاج تلك الارادة وهي مجموعة من الرغبات والأمزجة والمصالح بأفكار البشر فإنها تدخل في تركيبة العقل وتكون في عناصره المكونة له ولذلك لا يعارض هذا العقل تلك الأحكام اللاشرعية ولا يستقبحها في هذه الأمم بينما يرى العقل الذي يؤسس لفكرة واحدية الصراط المستقيم بأنها منافية للفطرة السليمة والبدهية العقلية للانسان وهو ما ينافي تلك التجارب التاريخية في هذه الأمم اللاكتابية والوثنية أو الشبيهة بالكتابية.
لكن القول أيضا بالحسن والقبح الشرعيين يحيل الى تناقض أساسي في هذا القول فقد كان الكثير من الحسن والقبح الشرعيين موجودا ومعمولا به في الأمم التي كانت سابقة على الشرع أو لم يكن لديها هذا الشرع وأحكامه، فقد أبقى الاسلام ما وافقه كشرع من الحسن والقبح الذي كان في العرب قبل الاسلام ولم يوافق عليه الشرع إلا لصحته حسنا أو قبحا في حكم الإسلام، وهو ما اعتبره الفقيه الاسلامي معيارا وقياسا في تحديد الصواب في المطابقة بين العقل والواقع قبل الشرع، وهي المطابقة التي تكشف عن معيار الصح أو الصواب في ذلك الصراط المستقيم وصوابيته تقتضي أو تنتهي الى واحديته فلا يجتمع الصواب والخطأ بآن واحد لعدم اجتماع النقيضين، والصواب وحده لا يمكن أيضا تعدده فهو ذو طبيعة واحدية مما يدع تعدد الصراطات المستقيمة مستحيلا عقليا او نظريا. يقول الفقيه الشيرازي (أن الصراط لا مثنى له ولا جمع... ولذا نجد أن القرآن الكريم لم يأت بتثنية أو جمع الصراط أبدا... وذلك يستبطن دلالة أخرى وهي أن الصراط واحد ولا يمكن أن تكون هناك صراطات مستقيمة)
التمييز بين المطلق والنسبي
الخلاصة في تمييز النسبية في المعرفة والحكم والتي فيها تتميز تعددية الصراطات المستقيمة عن المطلقة في المعرفة والحكم والتي تحصر الصراط المستقيم في واحدية مطلقة يدور بين الصواب والخطأ. فالمطابق للواقع هو الصواب من وجهة نظر الفقيه الاسلامي وغير المطابق للواقع فهو الخطأ سواء كان المطابق أو غير المطابق هو رأي الأغلبية أم رأي الأقلية فهو لا يغير من هوية الصواب والخطأ وهو كلام السيد الشيرازي، لأن الذي يقوم ويحكم بالمطابقة أو بنفيها هو العقل وهو ايمان مطلق بحق العقل في الحكم وبصوابية العقل منهجا وحكما لدى الفقيه الإسلامي.
وتؤكد الروايات الدينية–الاسلامية أهمية العقل وصوابيته فليس العقل بطبيعته وفق الرواية الدينية الاسلامية قابل للخطأ، وقد عرفته المصادر الاسلامية بأنه الحجة الباطنة في قبالة الحجة الظاهرة وهي النبوة وفي الحديث القدسي فان الله لم يخلق خلقا أعز عليه من العقل وبه يثيب وبه يعاقب وهو ما يبرر انطباق حكمه على الواقع في الصواب وتخطئته للحكم في عدم انطباقه على الواقع، وتكشف تلك الروايات عن وظيفة ومسؤولية العقل التي منحها الله له في النجاة واختيار سبيل النجاة في الصراط المستقيم لأن أحكامه تنطبق على الواقع دائما فهي الصواب ومخالفة أحكامه لا تنطبق على الواقع فهي الخطأ وهو ما نستنتجه من مقولة الفقيه الشيرازي في معيار الصواب والخطأ في منظور الفقيه الاسلامي الى العقل.
وهذا العقل في الرؤية الاسلامية العامة التي يكرسها الفقيه الاسلامي هو العقل البدهي–الفطري الذي يقود والحال هذه الى صوابية وصحة صراط مستقيم واحد بالمطلق في ثنائية الحكم بالصواب والخطأ لأن أحكام الصواب والخطأ لا ثالث لهما ولا سبيل وسط بينهما، فالوحدانية أما أن تكون مطلقة وبذلك تكون الألوهية لله تعالى مطلقة أو نسبية مشتركة-مشركة بالوثن أو البنوة "اي القول هذا ابن الله" فتكون شركا يناقض ويضاد الوحدانية، فالأحكام المطلقة لا تحتمل حكما ثان لها ناهيك عن حكم ثالث آخر. وبناء عليه فالصراطات المستقيمة اذا كانت كلها صواب فهي صراط واحد بالضرورة واذا كانت كلها خطأ فانها تعطل وتلغي دور العقل وأنها تعطل فيه قدرة التمييز بين الصواب والخطأ لا سيما اذا اختلفت أو تضادت الصراطات وهو ما نشهده في الصراطات الدينية المتعددة والمختلفة، فالعقل مسؤول عن تحديد صراط واحد مستقيم وفق الفقيه الاسلامي في حالة التضادات والاختلافات في الحالة الدينية لأن الصواب والخطأ لا يجتمعان، ووظيفة ومسؤولية الشرع هو الكشف عن هوية هذا الصراط المستقيم فالعقل وظيفته هنا هي الاجمال بينما وظيفة الشرع هي الفصل والتفصيل.
والعقل منظورا اليه وفق الفقيه الاسلامي ومقولة الحسن والقبح العقليين وحتى مقولة الحسن والقبح الشرعيين لا يخضع الى أحكام الطارئ المكاني والمتغير الزماني بل يعتمد على المنطق الداخلي أو الأصلي الفطري فيه وهو عقل بطبيعته لا يقبل إلا حكما أوليا واحدا أما الصواب أو الخطأ في تقييمه وحكمه على الوقائع والأشياء،
فالصراطات المتعددة والمختلفة تخالف مقولة هذا العقل الأولية–الأصلية "النقيضان لا يجتمعان" وتناقض قاعدة عقلية أصولية "استحالة الترجيح بلا مرجح" فلابد أن يكون هناك صراطا واحدا مرجحا.
بينما تحيل نظرية الصراطات المستقيمة مسألة العقل برمتها في هويته وطبيعته الى الطاريء المكاني والمتغير الزماني وتأثيره في صياغة وصناعة العقل، فالمادة قبل الوعي والوعي يتكون بشكل تاريخي ومضمون اجتماعي فلا معارف فطرية مسبقة ولا أحكام بدئية جاهزة، وهنا تتحدد نسبية المعرفة التي ينتجها هذا الوعي وبالتالي نسبية أحكامها المتعلقة بالصواب والخطأ، فليس هناك صواب بالمطلق ولاخطأ بالمطلق وانما هناك صواب نسبي يعتمد او ينتج عن ظرف تاريخي- اجتماعي وأحيانا سياسي بل واقتصادي في بعض الأحيان في تصويب صراط واحد من الصراطات المستقيمة المتعددة، وهو منطق تاريخية العقل المرتهن بالواقع والناتج عن صيروراته المختلفة والمتعددة، وهو يقود الى صيرورات العقل النسبي وينتج عنه تعدد أحكام الصواب والخطأ وفقا لتعددية صيرورات العقل البشري كل وفق حاله ومآله وبذلك تسمح تاريخية العقل البشري الى نظرية الصراطات المستقيمة بتبني فكرة وإمكانية تعدد الصواب وإمكانية الوصول الى الحق تعالى بعدد أنفاس الخلائق لكنها تتوقف في أدبياتها عن القول بتعدد أو إمكانية تعدد الخطأ وهو على مايبدو منطقيا نقضا في معادلة وثنائية الصواب والخطأ، وقد كرست التجربة البشرية الكبرى هذه المعادلة في تاريخها العام العقلي والاجتماعي، وهي محاولة ذات غايات مسبقة في إرساء نوع من الصوابية لكل الصراطات الدينية لأن مقولة الخطأ في حالة تبني نظرية الصراطات المستقيمة لها يقود الى تبني نظرية الصراط المستقيم وإمكانية قطع أنفاس الخلائق عن الوصول الى الحق تعالى من خلال تخطئة الصراطات الأخرى وبذلك تبرز أو تظهر الدكتاتورية الدينية ومن ثم السياسية.
وهي فكرة تبدو مستغرقة في مثالية فوق تاريخية يطبعها النزوع الصوفي وتتخلى عن الواقعية التاريخية أو في أحسن أحوالها تكشف عن الرغبة في إقصاء الدين عن الواقعية التاريخية حين تلجأ الى رسم طوبائية تلك الصراطات المستقيمة خارج الاحاسيس والانفعالات الدينية الفردية والاجتماعية وخارج المحاججات الدينية الكلامية-الاسلامية واللاهوتية-المسيحية، وهو واقع ومآل التجربة الصوفية التي تصدر عنها نظرية الصراطات المستقيمة وهي جانبها النظري والفكري الجذاب والمغري للنزوع نحو العيش المشترك وقبول الآخر والتناغم مع المختلف الديني.
وهي تقف على خط واحد مع الترويج النظري والفكري للديمقراطية في هذا العصر الذي يضغط على مجتمعاتنا بالاتجاه نحو التنوع والتعددية السياسية والثقافية واستباحة المركزيات القديمة وتدمير المتون التاريخية والثقافية العتيقة لصالح عالم ما بعد الحداثة، ولذا فإننا نجد أن نظرية الصراطات المستقيمة نسخة ثانية عن نظرية التعددية الثقافية الأميركية ومظلتها الأيديولوجية والسياسية في الليبرالية أو هو تكريس للتعددية الثقافية في الصراطات الدينية المتنابذة بينها على الصراط المستقيم واستحقاق النجاة فيه أو احتكار النجاة له.
وهو ما يبرر بالنسبة لنا إطلاق اسم الصوفية-الليبرالية على نظرية الصراطات المستقيمة , وهي تبدو محاولة واعية في إعادة مركزية الانسان وفق منطق الحداثة التي يشدد عليها الصوفي الايراني عبد الكريم سروش لكنها مركزية بامتيازات واسعة قد تبدو لا حدود لها كما هو الحال في التصورات الما بعد حداثوية للإنسان والتي لجأ اليها سروش فيما بعد.
فالتصورات والسلوكيات المتعددة والمختلفة للانسان في ما بعد الحداثة صارت مباحة –هناك التشريعات المتعلقة بالمثليين والتحولات الجنسية- وليس مباحة فحسب بل صارت ممكنة بكل تناقضاتها وتضاداتها وفق معيار الصواب الذي يصير الانسان هو معياره ومصدر تحديده وفق نسبية مفرطة، وهي عودة الى مقولة السفسطائية الإغريقية القديمة في معيارية الانسان للأشياء فلا صواب ولا خطأ إلا من وجهة نظر الانسان الفرد وهو الأصل الذي تنبني عليه نظرية الصراطات المستقيمة في نسبية الصواب المشروط في إستقامة الصراط المحدود بالطارئ المكاني والمتغير الزماني.
وفي مخطط الصوفية–الليبرالية هي إعادة صياغة الانسان بصورته الالهية–الصوفية في الكشف عن مركزيته الفائقة في الكون وهو المبدأ الراكز في نظريات ما بعد الحداثة، لكن سيرورة هذه المركزية في مخطط الصوفية-الليبرالية ليس باتجاه العالم العلوي او السماوي ولكن باتجاه العالم السفلي او العالم الأرضي وبالصيغة الدينية وهو ما يعد قلبا للدين حين يناط بهذا الانسان أو بالعقل النسبي الديني الخاص به وظيفة ومسؤولية توجيه وصياغة الصراط المستقيم، وهو استبطان ضمني وراكز في نظرية الصراطات المستقيمة وهو ما تقود اليه تاريخية وبشرية القراءات الدينية وفكرة الصراطات المستقيمة وينتج عنها في التصورات المتلقاة عنها استبعاد ونفي توجيه وتحديد الصراط المستقيم من الحق تعالى.
ولذلك فالصراطات الدينية وباعتبارها قراءات بشرية للدين او للنص الديني بشكل أدق فهي تفتقد الى الحق في إختصاصها بالاستقامة الواحدية دون الصراطات الأخرى بل هي كلها مستقيمة باتجاه الحق تعالى وفق القراءة الصوفية الحداثوية والليبرالية ويظل أن نظرية الصراطات المستقيمة لا تصفها ولا تسمها بالنسبية فضلا عن المطلقة بل تكتفي بأنها وفي تصورها تكفل الوصول الى الحق تعالى، فأنفاس الخلائق لا تخضع الى معيار النسبية بل هي عديدة بعدد الخلائق وعلى عدد أنفاس الخلائق تتعد القراءة البشرية للدين.
القراءة البشرية للدين
لقد كانت مشكلة القراءات البشرية للنص الالهي وصياغة العقل البشري للمفاهيم والأفكار المستنبطة من النص–الوحي تثير قلقا دينيا ومعرفيا كبيرا لدى المؤمنين مما دعا الى إناطة التفسير وفهم النص–القرآن–الوحي بالعقل المعصوم والمسدد بالروح القدس وهو منصب وموقع الإمامة في العقيدة الشيعية الإمامية، فالإمام ينطق بالتفسير أو التأويل غير الخاضع الى الشرط التاريخي أو المقتضى البشري الخاضع الى الطارئ المكاني والمتغير الزماني، وبذلك تشكل عقيدة الإمامة حلا مثاليا للتناقض في إشكالية الفهم الديني للنص المطلق من جانب العقل النسبي. فالإمامة هي الوسيط الدائم بين المطلق والنسبي او هي العالم الروحاني والعقلي الذي تبدو فيه إجابات المطلق حاضرة في استيعاب التساؤل النسبي وتكريس إمكانية الصراط المستقيم في الوصول الى الحق – راجع، باب ما جاء عن الرضا عليه السلام في وصف الإمامة والإمام... في...، عيون أخبار الرضا، للشيخ الصدوق، ج2 ص 195وما بعدها -
وبالاستناد الى ذلك العالم الوسيط العالم العقلي والنوراني الذي يتجلى في وظيفة الإمامة تتم إحالة الصراط المستقيم الى الحق تعالى وفق الفقيه الاسلامي الإمامي، فقد جاء في الرواية في تعريف الصراط المستقيم أنه (الطريق ومعرفة الإمام) لكن هذا القول بمرجعية المعرفة أو الهداية الى الصراط المستقيم الى المعصوم الذي هو كتاب الله تعالى الناطق يقود الى القول بمرجعية المعرفة والهداية الى الصراط المستقيم الى الشرع وليس الى العقل وأن الإمامة والعصمة هي الجسور والدوال الى الصراط المستقيم وليس العقل سواء كان العقل البدهي–الفطري أو العقل العلمي، ونستشهد بما أورده الفقيه الشيرازي ولكن الى غير ما ذهب اليه.
يقول الفقيه الشيرازي في قوله تعالى (إهدنا الصراط المستقيم... فان هذه الكلمة النورانية القرآنية المباركة... تكشف عن أن عالم الحقائق مطلق أي بمعنى أن الحقائق الخارجية لها تحقق ونوع من الثبات... وأن... عالم المفاهيم والمعاني والمعرفة والعلم... إنما هي مطلقة... وأن... عالم الجسور والكواشف والدوال... لا يمكن أن تكون نسبية) فالجسور والكواشف والدوال على المعاني والمفاهيم والمعرفة المتعلقة بالصراط المستقيم إنما المصدر فيها هو الشرع في الاسلام وليس العقل وفي العقيدة الإمامية فان المصدر هو الإمامة المعصومة وهي التي لا تكون نسبية وفق العقيدة الإمامية وهي التي تمتثل الشرع في مصدريته للعقل الاسلامي ومن ثم في مصدريتها للصراط المستقيم. ودور العقل هو إثبات صحة الصراط المستقيم وأما حقيقة وثبوت هذا الصراط المستقيم فهو الشرع –القرآن الكريم والإمامة المعصومة.
ويحيلنا الفقيه الشيرازي الى مناقشة علاقة الحق وتجلياته بالصراط المستقيم بالعقل فيرى إحالة الحق الى العقل في مصدرية الثبوت اذا كان الواقع مقيسا الى الذهن–العقل ويحيل الصدق الى الذهن–العقل اذا كان مقيسا الى الواقع، فالعقل وفق قوله له الثبوت وفيه الاثبات وينتج عنه أن الحق لا يتعدد بتعدد الأنظار والأفكار والاجتهادات، وهو الاشكال الذي تضعه نظرية الصراط المستقيم أمام نظرية الصراطات المستقيمة التي ينتج عنها تعدد صراطات الحق، ولكن ليس ذلك بالضرورة ان يكون مبنى نظرية الصراطات المستقيمة وان كان يصيبها العسف لدى مؤيديها وأصحابها الى الحد الذي تضيع فيه الحدود بين الحق العقلي والباطل الفكري، فالحق من وجهة نظر الصراطات المستقيمة هو المشتق من العقل أو هو ما تكون مرجعيته ومصدريته العقل لكنه العقل النسبي او العقل الجزئي الذي تراعي نظرية الصراطات المستقيمة تأثيره واستحواذه على المعرفة البشرية بما فيها المعرفة الدينية التي هي جزء من المعرفة البشرية وهي التي تتأسس وفقها نظرية الصراطات المستقيمة وإمكانية تعددية صراطات الحق بناءا على نسبية العقل البشري وكذلك بناءا على نسبية الفهم البشري للنص الديني أو للوحي بشكل ومضمون عام في كل الأديان بما فيها الأديان غير الكتابية.
لكن من الممكن أن تستلهم نظرية الصراطات المستقيمة وضمن قراءتها البشرية للدين بعض أدلتها وأوجه قبولها الفكري من الشرع – الوحي ومنها قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وهو ما يستبطن إمكانية النجاة لأقوام عبدت الله تعالى وفق ما استنبطته أفكارهم وعقولهم لسبب عدم إتصال الوحي بهم وبعث الرسل فيهم ويؤيدها مقولة اصولية – كلامية (استقباح العقوبة بلا نذير أو حجة).
ومنها إقرار الشرع في الاسلام أهل الأديان من الكتابيين وأشباههم على أديانهم والعمل بأحكامهم وفق شرعهم.
ولعل الأهم في نظرية الصراطات المستقيمة هو عدم مناقشتها لمسألة الحق في الثبوت أو مسألة العقل في الاثبات وهي من مقتضيات القراءة البشرية للدين، بل انصب اهتمام هذه النظرية على مشروعية الأنظار والأفكار والاجتهادات في تصوراتها عن الحق تعالى ومفاهيمها في الحق وفق إملاءات الظروف المكانية الطارئة والزمانية المتغيرة والتي تتدخل في صياغة وصناعة العقل البشري العقل النسبي الذي ينتج في كل أحواله وتطوراته المعرفة النسبية وهي أهم شروط أو مبررات القراءة البشرية للدين، وهي التي تعجز بطبيعتها عن انتاج المعرفة المطلقة وبالتالي تعجز في الاجماع على الصراط المستقيم الواحد غير المتعدد أو تعجز عن توفر اليقين المطلق في إثبات الصراط المستقيم الواحد مما يكفل لها الحق في اختيار الصراط المستقيم الذي يتوفر فيه الظن الممكن في حالة غياب اليقين المطلق مما يدع القراءة البشرية للدين في نظرية الصراطات المستقيمة خارج الرؤية الدينية لأن المصادر فيها ليس النص الديني أو الشرع وإنما العقل البشري والنسبي والتاريخي والاسقاطات المتعمدة لهذه الآليات الفكرية التي تمارسها نظرية الصراطات المستقيمة على النص الديني، وبذلك تنجز وتحقق القراءة البشرية للدين أو للنص الديني. فالنص-التنزيل للوحي والتأويل للبشر لكن نظرية الصراط المستقيم تنجز وتحقق التنزيل والتأويل للوحي وبذلك تمنع القراءة البشرية للنص الديني.
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2021
http://shrsc.com

Related Keywords

Athens ,Attikír ,Greece ,Australia ,Jerusalem ,Israel General ,Israel ,India ,Egypt ,Iran ,China ,Iranian ,Greek ,Greeks ,Hasan Shara ,Shara Muslim ,Morteza Shirazi ,Socrates Hakim ,Muslima Quran ,Sheikh Saduq ,Van Shara ,Shara States ,Koran Karim ,Abdolkarim Soroush ,Researcher In Center ,Abdul God ,God Almighty ,Spirit Secretary ,Egypt Pharaonic ,Athens City ,Sharia Divine ,Conformity Or Bnfaha ,Internal Medicine ,Mount Van God ,For Deliverance ,Vision Islamic General ,Muslim Peradventure ,Iranian Abdolkarim Soroush ,Text Divine ,Spirit Jerusalem ,Creed Shiite ,Description Imamate ,Illuminati Quranic ,الحقيقة ,النسبية ,علم الكلام ,المعرفة ,مرتضى الشيرازي ,مركز الامام الشيرازي ,ஏதென்ஸ் ,கிரீஸ் ,ஆஸ்திரேலியா ,ஏருசலேம் ,இஸ்ரேல் ,இந்தியா ,எகிப்து ,இரண் ,சீனா ,இராநியந் ,கிரேக்கம் ,கிரேக்கர்கள் ,இறைவன் சர்வவல்லவர் ,ஏதென்ஸ் நகரம் ,உள் மருந்து ,

© 2024 Vimarsana

comparemela.com © 2020. All Rights Reserved.