ادبيات رسائل خليفة الفاخري
4- جنقي وأدب رسائله
4-(جنقي) وأدب رسائله
طفولة الفاخري وصباه ومطلع شبابه، واضحة ومعروفة لجيله. رفاقه كثيرون، لا يصح أبدا أن نحصرهم في شباب ورجال سوق الحشيش، مثلما سمعت أحد الأصدقاء يقرر ذلك، صحيح أنه شب وسطهم، لكنه سريعا ما أسس، في البداية علاقات وثيقة مع شباب نادي التحدي، آنذاك، وسريعا ما امتدت صدقاته مع شباب نوادي بنغازي كلها، الأهلي، الهلال، النصر، الملاحة، باختصار شديد بنغازي كافة. جميعهم يتفقون على شخصيته الودودة المحبة للفرح والمزح، والبهجة، والأدب والقراءة. لكن خلف هذا المرح، كان هناك حزن ومعاناة كبيرة، ينتبه إليها متابعيه خصوصا القريبين منه. هذه المعاناة لها أسبابها، بل مرتبطة تماما بحال البلاد، وأيضا معاناة الشباب التي قد تكون واحدة في مختلف الحقب. ومع ذلك نستطيع أن نقسم هذه المراحل، وأنا اقصد حالته النفسية، من خلال رسائله لأصدقائه أكثر مما نستشفه من كتابته، ولقد وضحت رأي هذا في كتاباتي عنها من خلال مجموعة مقالات، وأيضا كتابي منابت الريح، وقطعان الكلمات المضيئة.
(جنقي) هذا الكاتب الذي اتفق قراءه على تميزه
الآن، ومن خلال هذه الحلقات التي قلت، في البداية، أنها ستكون أربعة سوف أحاول أن أتناول نفسيته، من خلال رسائله. لكنني لا أعتقد أن اربع حلقات ستكون كافية، وبالتالي سوف أستمر في دراسة هذه الرسائل، فلعلها تكون مفيدة للمهتمين بكتابات صديقنا، هذا الكاتب الذي اتفق قراءه على تميزه، إن لم أقل عبقريته. الرسائل كثيرة، منها ما هو محفوظ تماما، ومنها ما نقصت بضعة أسطر، وأحيانا صفحات. وبحسب ما هو متوفر سوف نستعرضها معا، متطلعا إلى إثرائها بالتصحيح، والتصويب وأيضا الإضافة، فهي بالتأكيد إرث لنا جميعا، فهى على نحو ما، جزء من تاريخنا. في تقديري أن تقسم هذه الرسائل إلى أربع مراحل من حياته، أمر غاية في الأهمية لأننا من خلالها سننتبه إلى معاناته، التي وشت بها كلماته.
المرحلة الأولى، وهي مرحلة رسائله المتبادلة مع صديقه الأديب صادق النيهوم، وهي التي لا نملك منها إلا التي أرسلها إليه صادق، لكننا لا نملك ما كتبه هو إلى صادق النيهوم. لقد تناولت هذه الرسائل في كتابي «قطعان الكلمات المضيئة». وتزامنت هذه الفترة مع بداياته كتاباته في جريدة الحقيقة. تلك الفترة، تسلطت عليه فكرة تجربة مماثلة لتجربة صادق النيهوم في السفر والغربة، وأستمر طوال أربعة عشر سنة كاملة، من سنة 1966 إلى 1970 سافر خلالها عددا من المرات لعدد من البلدان، لكن لم تكون مثلما يريد تجربة ومعايشة وغربة، كالتي مر بها صادق.
عندما قلت مقالاته و كثرت رسائله،
المرحلة الثانية، بدأت ببيع ما يملك ، وتمثلت في سيارة، وألتحق بدورة دراسية في «بورمت وبول» في بريطانيا لمدة عام، والمرحلة الثانية، تبتدئ من معاناته حال عودته، وبداية سعيه الدؤوب للالتحاق للعمل بوزارة الخارجية، التي أفنى سنوات في السعي من أجلها، بل كان سفره إلى بريطانيا من أجل تعلم اللغة يعد من أهم أسبابها. ونجح في مسعاه، فلقد تزامن رغبته مع توالي أفواج الخريجين، الذين اتجهوا إليها، وأصبح التعيين يشترط الشهادة الجامعية، ولم يستثن من ذلك سوى الملحقين الصحفيين، أو الثقافيين، فالحقيقة كان الإيفاد في بداية ثورة سبتمبر يعتمد بالدرجة الأولى على المؤهل الجامعي. لقد ادعى كثيرون أنهم كانوا وراء إيفاده، لكنني أعرف بحسب ما سمعته منه شخصيا أن من كان وراء التحاقه بالخارجية هو الأستاذ عبدالعاطي العبيدي.
ظل في طرابلس أكثر من سنة قبل أن يوفد إلى العمل كملحق ثقافي في الدنمارك، ومنها وإن قلت مقالاته، فقد كثرت رسائله، والمرء بسهولة ويسر بالغ يستشف منها حالته النفسية، التي تغيرت إلى بهجة وأمل وتطلع، بعيدة عن حالة غربته النفسية المؤلمة في بنغازي، المرحلة الثالثة من بعد عودته إلى ليبيا، رفقة زوجة وطفلين! وتشرده سنتين من بين طرابلس وبنغازي وتعنت الموافقة على سفره إلى كينيا بأفريقيا بحسب قرار الإيفاد، الذي – سامح الله – من أوقف تنفيذه، المرحلة الرابعة معاناة قبل حصوله على سكن، الذى ادعي كثيرون أنهم ما سعوا، فيه ولكنني أعرف تمام أن سيد قداف الدم، هو الذى علم بمشكلته، وكنتُ حاضرا، فبعث اليوم التالي، مفتاح شقة كانت مخصصة له كمكتب، وهي التي استقر بها، إلى سخر الله وتحصل على شقة في عمارات النوق البيض بالكيش، كثيرون سعوا من أجلها لعل المرحوم إبراهيم بكار ومن بعده المهندس مبارك الشريف كانوا وراء ذلك. وكانت مرحلة بهيجة مريحة بالنسبة له، حتى بعدما أكتشف إصابة أصغر أبنائه بحالة التوحد، فكانت تلك هي المرحلة الرابعة.
لا تجري أمام الكلاب
خلال المرحلة الأولى، كتب أربعة مقالات ونشرت خلال سنة 1971 وهي: («لا تجري أمام الكلاب» – "«جسر فوق المياه العكرة» – «أحزان قديمة» - والرابعة: «تعويضة» وجميعها لا تنم عن سعادته في غربته هناك، ونشرنا أيضا، في الحلقة السابقة بضعة رسائل تبرز متى اشتياقه وغربته. وهذه المقالات الأربعة منشورة في كتابه الأول «موسم الحكايات"» الذي نشرت طبعته الأولى سنة 1974 .
المرحلة الثانية نستطيع أن نحددها من بعد مغادرته بريطانيا، أو في الواقع قبلها بقليل، فلقد كتب، من بول (بريطانيا) رسالة إلى صديقه جلال الدغيلي بتاريخ 23/12/1970 قال فيها، من بعد سلامه واشتياقه واصفا حالته حينئذ:
«...
وأنا منهك الآن.. إنني ممتلئ بالتعب والحزن مثل ريشة مترعة بقطرات المطر، فيما أعبر أيامي الأخيرة هنا باختناق ممتعص، مثلما يدخل بك القطار نفقا طويلا معتما بعد أن كنت تتطلع من النافذة إلى الحقول المخضرة المترامية على مدى البصر!
وعلى أي حال، فأنا سأنهي امتحاناتي ودراستي في الأسبوع المقبل، ولست أدري، ماذا سأفعل، بعدئذ على نحو اليقين، إنني في الواقع قد نعبت تماما من انتظار الصدقات، وحمل الديون المرهقة فوق كتفي المرهقين، والتسول على أبواب الأصدقاء، والخجل الحارق، وأشباح الجوع المزعة، والصقيع!
لقد فكرت أن أقيم هنا، وأوالي الكتابة إلى جريدة الحقيقة، بعد أن طلب مني رشاد الهوني، ذلك منذ أسبوعين تقريبا أن يرسل لي بعض النقود كل شهر، لكنني لم أستطع أن أثق في هذا، لأنني ببساطة لم أتعود من قبل أن أكتب من أجل أن آكل!
ثم فكرت أن أرجع إلى بنغازي (الفاضلة) وأن أعاود احترافي هناك تحت الشمس المتثائبة، لكنني رأيت أن ذلك عمل ممتلئ بالفخاخ، ورؤى الموت، والصمت العاصف، ولست أدري أن أمكث هنا وأنفق بقية عمري في غسل صحون الإنجليز ابنا الزانية، وبدأ الأمر مجرد دوامة مربكة مليئة بسوء الطالع..
أخي جلال
لقد برق في ذهني خاطر آخر، عندما تذكرت أنك عرضت علىّ ذات يوم أن أنتقل إلى العمل بالسفارة الليبية في(بون)، وأعتقد الآن أن هذا أروع مرسى لقاربي، الضليل ولست أدري حقيقة عما إذا كان في الإمكان الآن أن أقبل هناك، وعما إذا كانت إجراءات النقل متيسرة بالنسبة لي، أم ثمة صعوبة، كما لا أدري – وهذا هو أهم شيء – عما إذا كنت أنت تريدني هناك، أم أنك تنصحني بشيء آخر! إنني قلق للغاية، واحتاج إليك، فمد لي يديك.. مُد لي يديك.
إني أفكر في زيارتك بعد انتهاء الدراسة، فخذ ورقة صغيرة وقلما وأكتب لي في الحال عما إذا كانت ظروفك تلائم ذلك، وهل لدى بعض الأمل في العمل هناك، وهل أخبارك طيبة مثلما أتوقع! ثم ألف سلة من سلام إليك، وكل ما في قلبي من ود وحرارة «التوقيع "جنقي»)
وذهب إلى بون لكن ولم يتيسر تعينه، وقبل أن يعود إلى ليبيا تبتدئ مرحلة غربة وحيرة لم تنتهي إلى بعد أن غادر طرابلس وتعين ملحقا ثقافيا في الدنمارك. من بون كتب إلى أخيه مصطفى، الذى يمكن أن نعتبره أحد أهم «حوائط» بكائيات الغربة، هذه الغربة التي أفرزت مشاعر إنسانية كتبت بكلمات بليغة منتقاة بعناية من مخزون لغوي، إنساني قلما نقرأ مثله في أدبيات الرسائل، نقف على ذلك من هذه الرسالة التي كتبها من بون يوم 3/2/1971 ونواصل معرفة حالته النفسية وعذاباته من خلال رسائل أخرى كتبها خلال هذه الرحلة التي اتفقنا أن نسميها المرحلة الثانية. والرسالة مكتوبة بخطه الجميل. تقول مقدمة الرسالة:
« أخي مصطفى..
ماذا يمكن للكلمات أن تقله إليك؟ فأنا مجرد بحار عجوز قد بصقه البحر في نهاية المطاف على أحدى الشواطئ المهجورة الغارقة في ماء المطر.. وصياح النوارس المذعورة عبر العاصفة! بحار عجوز يحمل في داخل صدره كيسا مليئا بالتجاعيد مثل حزمة أوراق تبغ، وآهة متسللة في وجه المساء الشاحب الهابط في سكون، ودفقة حنين إلى عينين ودودتين يدفن في سمائهما تعبه، وكوخ ملون، وشمعة، نار، ولفلفة ورغيف دافئ! ».
ثم من دون تمهيد يحدثنا عن نفسه -حينها كان عمره 30 سنة- من خلال «عجوز وحيد» وظفه لإقناعنا بتجربته، فيقول:
«.. بحار عجوز يجلس وحيدا على أحدى المقاعد في الحديقة العامة. إنه يظل يتطلع إلى السماء بين حين وآخر بنظرة عتاب، حالما بالشمس والرفاق، منتظرا أن يجلس أحد بجانبه، ثم يفتح تابوت قلبه، ويهز رأسه برتابة في وجه الذكريات »
ويستمر يصف لنا معاناة الإبحار والوحدة والتطلع إلى الوصول إلى المرفأ، إلى أن يقول: «إنه يفتح كيس التبغ والذكريات، ويهز رأسه بجلالة، متطلعا إلى السماء بنظرة عتاب، حالما بالدفء، والانطلاق والحرارة من جديد! » ثم يعيد تساؤله:
«فماذا يمكن للكلمات أن تقله إليك؟» - يا مصطفى، ومن ورائه نحن القراء! - ويخبرنا كيف أنه يترك كلماته «تنضج في قاع قلبه»، وهذا ما ظل يقوم به حتى رحيله، فلقد ترك كلمات رائعته «النوارس» لأكثر من شهرين قبل أن يضعها بود فوق الورق، كنا حينها، نقضي معظم يومنا وأماسينا برصيف الصيادين ببنغازي، وكان ينسحب من بيننا ويجلس على حافة الرصيف، وكنت أعرف أنه مشروع مقال؛ وكان يترك كلماته – مثلما يقول في الرسالة - تنضج في قاع قلبه مثل ثمار «الشماري»، تلك الفاكهة التي تشبه الفرولة، والتي تنبت برية في جبل ليبيا الأخضر.. ويواصل: «.. وأظل أحلم بأنها قادرة - كل القدرة – على أن تحمل قلبي- فوق طبق من ذهب وتمنحه لآخرين! » ويصف لنا صمته البركاني الطويل وغضبه من مشاعر الغربة: «.. والحزن الجليل المتكابر، والخجل،والخجل الحارق الملتهب فوق الجبين عبر كل لحظة تسول! ». لعله كان يرى أن طلب الوظيفة إلى بعث به إلى صديقه جلال أنه تسول على نحو ما، وهو القادر بإمكاناته وموهبته، مثلما أثبتت الأيام ذلك، بعدما أصبح الملحق الثقافي بالدنمارك، وكان مثالا للموظف المؤهل وما زال المجلدان الكبيران بمكتبة وزارة الخارجية حتى الآن، ولقد ضما كل ما يتعين أن تعرفه الحكومة الليبية عن الجوانب الثقافية والإعلامية عما يحدث في الدنمارك، ناهيك عن ندوات ثقافية لعل أبرزها، تلك المحاضرة التي قدمها صديقه الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي عن الشعر العربي.
الحرقة والألم الذي حوته هذه الرسالة، في تقديري، بسبب رسالته السابقة إلى صديقه جلال الدغيلي، الذي بالتأكيد كان سيقف معه ويساعده، ولكن فيما يبدو، وكما عرفت لاحقا، أن عدم قبوله، كان، آنذاك، من وزارة الخارجية.
عموما، جمال خط الرسالة والدقة في تنسيق أحرفها، وأسطر صفحاتها السبعة، المقروءة بيسر أغرتني، أن أجعل منها صورا مرفقة، بدلا من طباعتها، ليحتفظ بها المهتم نموذجا متميزا لكتاب جيلنا تتوارثه الأجيال. وكيف يوظف الكاتب الجيد المتمكن، من أشعار عربية تميزت في زمنه، وأغانٍ أجنبية اشتهرت في وقته رددها شباب ذلك الزمن الجميل وأخذتهم النغمات، حتى إن بعضهم ثابر حتى عرف كلماتها وفسرها، فكانت سبيله له لتعلم لغة أخرى. سوف نواصل التمعن مرة أخرى في رسائل الفاخري، فثمة جواهر ودرر من كلمات "أدب الرسائل» كثيرة يستحق أن تصل إلى قرائه، وهذا ما أتطلع أن يمكنني الله من مواصلة تقديمه بصور تنال القبول.
رسائل جنقي روايات مضغوطة