تقارير و تحليلات
السبت 10 يوليو 2021
هشام محمود من لندن
قبل اجتياح وباء كورونا لكوكب الأرض كانت سنغافورة تبدو كثوب مخملي مرصع بناطحات السحاب.
الدولة– المدينة، كما توصف في عديد من الكتابات السياسية والاقتصادية يقارب عدد سكانها ستة ملايين نسمة، بينما تبلغ مساحة الأراضي الزراعية فيها مجتمعة نحو 500 فدان فقط لا غير، مع هذا فإنها أثبتت نجاحا اقتصاديا يشار له بالبنان.
محدودية المساحة لها مشكلاتها ولا شك، خاصة عندما يتعلق الأمر بتوفير الطعام اللازم للسكان، فنحو 90 في المائة من احتياجات البلاد الغذائية تستورد من الخارج، حيث اللحوم تأتي من نيوزيلندا والبيض من بولندا والخضراوات من الهند وماليزيا. وبالطبع كان هذا التنوع الغذائي أحد مظاهر الافتخار لسنغافورة وللمدافعين عن قدرة العولمة التجارية على تلبية احتياجات المجتمع.
لكن في عام الجائحة وما بعده، تغير المشهد وبشدة. فسنغافورة وعلى الرغم من أنها حافظت على واحدة من أدنى معدلات الوفيات في العالم من المرض، نتيجة نظام الرعاية الصحية المتطور للغاية، وتبني سلسلة من الإجراءات الاحترازية المتشددة، فإن الوباء ترك بصمات سلبية على قطاع الاستهلاك المحلي، وكذلك على تدفق العمالة المهاجرة، وبالطبع على قطاع التصدير.
كما أن عديدا من الدول، التي اعتادت أن تستورد منها سنغافورة احتياجاتها الغذائية تضررت أيضا، وأصيبت سلاسل التوريد بالاضطراب. وفي الواقع حتى قبل الوباء، فإن المعارك التجارية ودعوات الحمائية، التي ظهرت خلال فترة وجود الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب في سدة السلطة، دفعت عديدا من الخبراء إلى الدعوة لإعادة النظر في كثير من المسلمات السابقة بشأن الاعتماد التام على العالم الخارجي.
لا شك أن تلك التطورات لم تكن في الحسبان عندما وضعت سنغافورة مخططاتها التنموية الطموحة، لكن الدكتور جيمي هيل أستاذ الاقتصادات الناشئة في جامعة أكسفورد يعتقد أن المركز المالي القوي لسنغافورة سيمكنها من تحقيق عديد من النجاحات البارزة من الآن حتى منتصف القرن على الرغم من الصعوبات التي ظهرت في الطريق.
ويقول لـ"الاقتصادية" إنه "بحلول 2050 من المتوقع أن تتفوق الاقتصادات الناشئة في آسيا على البلدان الرأسمالية في الغرب، إذ يرجح انخفاض حصة الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي من 41 في المائة 2010 إلى 18 في المائة بحلول منتصف القرن".
وتوقع أن تكون سنغافورة في طليعة الاتجاه الشرقي في الازدهار الاقتصادي، حيث سيبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2050 نحو 138 ألف دولار سنويا، بينما ستحتل تايوان وكوريا الجنوبية المرتبة الأولى والثانية، حيث إن كثيرا من الأثرياء في العالم لديهم ثقة بالآفاق الاقتصادية طويلة الأجل لسنغافورة، ما يجعلها في وضع جيد لجذب الاستثمارات.
تبدو الأرقام الصادرة عن المؤسسات الرسمية في سنغافورة لمستوى النمو الاقتصادي بعد التراجع النسبي لوباء كورونا، إيجابية، فبعد انكماش اقتصادي بلغ 5.6 في المائة 2020، عاود الاقتصاد السنغافوري النهوض محققا معدل نمو 1.3 في المائة في الربع الأول من العام الجاري.
وعلى الرغم من أن هذا المعدل لا يعد شديد الارتفاع، فإنه أعلى معدل نمو تحققه البلاد منذ الربع الأخير من 2019، وتأمل الحكومة أن تحقق هذا العام نموا يتراوح بين 4 و6 في المائة.
لكن المسار الاقتصادي لسنغافورة لا يعتمد في حقيقة الأمر على الاقتصاد المحلي، وإنما يعتمد إلى حد كبير على ما يحدث في جميع أنحاء المنطقة، ومدى انتعاش الاقتصاد العالمي في مواجهة وباء كورونا، فسنغافورة لديها سوق محلية صغيرة للغاية، بينما تمثل الصادرات ما يصل إلى ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد. وتكشف بيانات البنك الدولي أن نسبة صادرات سنغافورة إلى الناتج المحلي الإجمالي تزيد على 170 في المائة، وهي واحدة من أعلى المعدلات على مستوى العالم.
مع هذا يحمل الخبير الاستثماري جا آر دال نظرة إيجابية تجاه سنغافورة والأفق الاستثماري لها، إذ يعد أن وباء كورونا أعاد التذكير بعديد من الجوانب الإيجابية، التي تتمتع بها الدولة– المدينة.
ويقول لـ"الاقتصادية": تعد منطقة جنوب شرق آسيا منطقة سريعة النمو، وبحلول 2030 من المتوقع أن تصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم بعد الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذ ارتفعت قيمة اقتصاد الإنترنت في جنوب شرق آسيا من 31 مليار دولار 2015 إلى 100 مليار دولار في 2019.
ويضيف، "من هذا المنطلق تسعى سنغافورة لتعزيز موقعها كقطب مالي واستثماري في المنطقة لجذب الشركات الدولية متعددة الجنسيات، خاصة في ظل المنافسة، التي تشهدها من تايلاند وماليزيا، فبينما استقطبت تايلاند شركة هواوي الصينية، التي أنشأت مقرها الإقليمي في بانكوك، نجحت سنغافورة في استقطاب مجموعة التكنولوجيا الصينية تن برسينت، التي اختارت سنغافورة أخيرا كموقع لمكتب جديد لدعم توسعها الإقليمي".
يبدو أن سنغافورة تدرك طبيعة هذا التحدي الجاد، الذي تواجهه، لذلك تعمل على تعزيز دورها الخاص في المنطقة في مواجهة هذه المنافسة عبر الابتكار اللوجستي المستمر.
وقلة عدد السكان وضيق المساحة يضعان قيودا على الدولة- المدينة من حيث القوى العاملة ومن حيث الأرض وما يفرضه ذلك من عوائق تنموية، وعلى الرغم من اعتمادها على توسيع الرقعة المتاحة من الأرض عبر ردم جزء من البحر، إلا أن ذلك يرفع التكلفة الإجمالية للنشاط الاقتصادي، كما أن انخفاض معدل المواليد يعني استمرار مشكلة توافر الأيدي العاملة.
من هنا تحديدا تأتي أهمية الابتكار اللوجستي ضمن أطر التجربة الاقتصادية لسنغافورة، إذ نجحت في تطوير مكانة رائدة لها في الشحن البحري والجوي العابر للسلع القابلة للتلف مستفيدة من موقعها الجغرافي. كما أضفت بعدا آخر لنجاحها الاقتصادي عبر تعزيز اتصالاتها في المنطقة للاستفادة من التحول الراهن في جنوب شرق آسيا للتحول للخدمات الرقمية. وفي الواقع، فإن هذا التحول أثبت نجاحا كبيرا وفائدة اقتصادية ملحوظة خلال فترات الإغلاق نتيجة تفشي وباء كورونا، حيث سمح نقل مزيد من الخدمات عبر الإنترنت لشركات سنغافورية بالاستفادة من الفرص المتاحة في المنطقة حتى عند إغلاق الحدود والمكاتب.
مع هذا، فإن الاستشاري في منظمة العمل الدولية سوران إيستون يعتقد أن العامل البشري سيكون المحدد المهم لضمان نجاح التجربة السنغافورية وتواصلها.
ويقول لـ"الاقتصادية" إنه "خلال المراحل المبكرة من الوباء، انكشف اعتماد سنغافورة على العمال المهاجرين في الأجل القصير، فالتحدي الديموغرافي يجعل مواصلة الاندفاع التنموي في الدولة- المدينة تحديا حقيقيا".
ويضيف "وعلى الرغم من أن سنغافورة تعمل على تعويض نقص الأيدي العاملة عبر رفع المهارات الفردية وتطوير أساليب عمل جماعي أكثر إنتاجية، إضافة إلى تكثيف الاستثمارات الرأسمالية في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إلا أن إعادة النظر في كثير من القوانين المتعلقة بالجنسية، وسوق العمل ستمنح سوق العمل الداخلية مرونة أعلى، بما يسمح بدعم النشاط الاقتصادي الخاص، وبما يتيح لرأس المال المحلي توسيع نطاق نشاطه على المدى الطويل، وجذب مزيد من رؤوس الأموال الدولية في ظل ضمان توافر فئات عمالية عالية المهارة وبأعداد كافية، ومن ثم تغيب مخاطر حدوث اختناقات في سوق العمل تؤدي إلى رفع التكلفة الإنتاجية بشكل غير متوقع".
إنشرها