يوم قال الشعب التركي كلمته
660
قبل خمس سنوات، وفي مثل هذا اليوم، وتحديداً في الساعة العاشرة من مساء يوم 15 يوليو/ تموز 2016م، شاهد العالم كله، الشعب التركي وهو يسطّر ملحمة كبرى في شوارع أنقرة وإسطنبول ومختلف المدن والولايات التركية ضد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة.
في ذلك اليوم خرج الشعب التركي كله، بمختلف توجهاته السياسية، متسلحاً بإيمانه، وعشقه للحرية والديمقراطية، والتفافه حول قيادته الشرعية؛ ليقول للانقلابيين: دونكم أرواحنا، ودماؤنا فداء للحرية والديمقراطية وللشرعية الدستورية.
خرج ليقول لهم وللعالم: لا مكان في تركيا الحديثة للانقلابات العسكرية، والقفز على السلطة، والتحكم بمقدرات الشعب التركي وإنجازاته.
فتركيا اليوم قد ودّعت ماضيها اللاديمقراطي، واتجهت نحو مستقبل واعد تسوده الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. تأخذ من ماضيها العبر والدروس لتبني مستقبلها على هُدًى من الله وبإرادة شعبها، تمد يدها لشعوب العالم وحكوماته ومؤسساته الديمقراطية لإرساء دعائم عالم لا مكان فيه للإرهاب وظلم الشعوب واحتلال أراضيها ونهب ثرواتها وخيراتها.
لقد برهن الشعب التركي للعالم مدى رسوخ هذه المبادئ في فكره الجمعي، حين وقف على جنبات جسر البوسفور، بصدور شبابه العارية، غير آبه بدبابات الانقلابيين وطائراتهم؛ لأنه يدرك أن إعطاء الفرصة لهؤلاء الانقلابيين سوف يقضي على كل المكتسبات التي حققها في كل المجالات الاقتصادية والثقافية والصناعية والعسكرية، ويجعلها رهينة لتلك الدول التي كانت وراء هذا الانقلاب الفاشل.
لقد أظهر الشعب التركي ثباتاً منقطع النظير رغم كل الأحاديث الكاذبة التي روّجت لها بعض وسائل الإعلام العالمية عن نجاح الانقلاب، وهروب الرئيس التركي خارج البلاد. وتصدى الشعب لرصاص الانقلابيين وقصفهم للمتظاهرين العزل بقذائف الدبابات والطائرات ما تسبب في استشهاد 250 شخصا وجرح ألفين آخرين.
لقد كانت مكالمة واحدة من الرئيس رجب طيب أردوغان التي ظهر فيها عبر تطبيق فيس تايم، ودعا الشعب لحماية الديمقراطية في البلاد؛ كفيلة بأن تقضي على أحلام الظلاميين، وتلهب مشاعر الشعب كله، فتوجه المواطنون بحشود غفيرة لحماية مبنى البرلمان الذي تعرض للقصف الجوي، ورئاسة الأركان بالعاصمة أنقرة، ومطار أتاتورك الدولي بمدينة إسطنبول، ومديريات الأمن في عدد من المدن، ما أجبر الآليات العسكرية التي كانت تنتشر حولها على الانسحاب، وساهم بشكل كبير في إفشال المخطط الانقلابي.
ولم يدخر قادة الانقلاب وسيلة لإرهاب المتظاهرين، في محاولة يائسة لتفريق الحشود المتدفقة، فاخترقت مقاتلتان من طراز أف 16 حاجز الصوت، وحلقت عدة مرات فوقهم قرب مطار إسطنبول، وفي كل مرة تحلق فيها الطائرات كانت الحشود تردد بصوت واحد الهتاف الشهير "بسم الله.. الله أكبر".
ولعقود ظل فتح الله غولن مؤسس وزعيم جماعة الخدمة في تركيا يرفع شعار "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة"، لكن أعضاء جماعته كانوا يتسللون سرا خلال تلك السنوات داخل أجهزة الدولة وعلى رأسها القضاء والجيش والشرطة، وعندما جاءت اللحظة المناسبة قرروا الظهور للعلن إلى مسرح السياسة عبر محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة.
وقد شكل صمود الشعب التركي في الميدان مفاجأة كبرى لقادة الانقلاب، الذين قرروا الانتقام بشكل وحشي، فبدأت دباباتهم في دهس المتظاهرين وسياراتهم، في مشهد همجي ووحشي وثقته العشرات من مقاطع الفيديو.
ومما يدلل على هذا الوعي الجمعي لدى كافة أطياف الشعب التركي، ورسوخ مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة لديه؛ هو مسارعة أحزاب المعارضة المختلفة للتعبير عن رفضها القاطع لأية محاولة انقلاب على الديمقراطية، ووقفت جميع هذه الأحزاب حكومة ومعارضة تحت قبة البرلمان تهتف معاً ضد قادة الانقلاب، الذين قرروا الانتقام من ممثلي الشعب بقصف مجلس الأمة الكبير (البرلمان)، في جريمة لم يسبق لها مثيل في التاريخ التركي.
وقد أفقد هذا التلاحم الكبير صواب الانقلابيين، فراحوا يصبون حمم طائراتهم على قصر الرئاسة، ومقرات المخابرات التركية، وقيادة القوات الخاصة، وشرطة العمليات الخاصة، ومديرية الأمن، ومقر مؤسسة البث الفضائي في منطقة "غول باشي" في أنقرة.
وأرسلوا فرقتين من الكوماندوز لاغتيال الرئيس أردوغان أو اعتقاله داخل منتجع سياحي بمدينة مرمريس لكنه غادر قبل وصولهم، كما اختطفوا رئيس هيئة الأركان الجنرال خلوصي أكار.
لكن مساعيهم كلها باءت بالفشل، فقد أجبرهم الشعب بتضحياته في اليوم التالي على الاستسلام لقوات الشرطة، وانقلب السحر على الساحر، وبدأت حملة اعتقالات بحق كل من شارك في هذه العملية الآثمة، وقررت الحكومة بعدها تغيير اسم جسر البوسفور الذي كان شاهداً على إجرام الانقلابيين، وتضحيات الشعب إلى جسر الشهداء، تخليداً لأولئك الأبطال الذين قدموا أرواحهم ثمناً لحرية وطنهم، ورووا بدمائهم الزكية ثراه الطاهر.
ورغم بقاء الشعب التركي بعدها شهراً كاملاً في الشوارع والميادين، للحفاظ على مكتسباته وقيمه؛ إلا أنه لم يتعرض لهؤلاء الانقلابيين بأذى، ولم تسقط منهم قطرة دم واحدة مع أنهم قتلوا عشرات المواطنين العزل، وأحيل أمرهم إلى المحاكم لينالوا جزاءهم وفق القانون، على العكس تماماً مما فعله هؤلاء الظلاميون في الانقلابات السابقة، حين علّقوا العمل بالدستور، وأقالوا الحكومة، وألغوا البرلمان، وأغلقوا الجمعيات، واعتقلوا قادة الأحزاب السياسية، وشكلوا محاكمات صورية، أصدرت بحق معارضيهم عشرات الأحكام الجائرة بالإعدام وغيره.
لقد ذكرت وحشية الانقلابيين في التعامل مع المتظاهرين السلميين، الأتراك بانقلاب عام 1980 الذي قاده الجنرال كنعان ايفرين، والذي قرر قادته تعليق العمل بالدستور وإقالة الحكومة وإلغاء البرلمان وإغلاق الجمعيات واعتقال قادة الأحزاب السياسية.
وكان من نتائج هذا الانقلاب توقيف 650 ألف مواطن، ومحاكمة 230 ألفاً، والحكم على 517 منهم بالإعدام أعدم منهم 50 شخصا، وطرد 30 ألفاً من أعمالهم، وسحب الجنسية من 14 ألفاً، كما قتل 300 شخص في ظروف غامضة و171 تحت التعذيب، كما مات أكثر من 30 ألف تركي في المنفى.
لقد خرجت تركيا أقوى بعد تلك المحاولة الانقلابية، وبدأت في اتخاذ الكثير من التدابير لإعادة هيكلة سياساتها الداخلية وشؤونها الخارجية، وفي مقدمة تلك القرارات إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والتحول للنظام الرئاسي.
إن شعوب العالم المحبة للحرية والسلام تنظر للتجربة التركية بإعجاب واعتزاز، تقارن أوضاع تركيا قبل الديمقراطية وبعدها، وما فعلته تركيا وما قدمته من نماذج ونجاحات في مختلف الأصعدة، في البنية التحتية من طرق وجسور وكهرباء ومطارات ومدن صناعية ومؤسسات تعليمية وصحية وصناعة عسكرية، وانفتاح خارجيا على محيطها الإقليمي والعالمي، ووجودها الفاعل في المؤسسات الإقليمية والدولية، وفي استضافتها لللاجئين من دول الجوار، بل معاملتهم معاملة الأخوة الإسلامية والإنسانية، فاستحقت بذلك احترام دول وشعوب العالم وتقديرها.
التحية لشعبنا في يوم عيده، عيد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
التحية لقيادته التي أعطت النموذج في القيادة الواعية الحكيمة المستعدة للتضحية من أجل الحفاظ على المبادئ التي انتخبها الشعب التركي من أجلها، فكانت وفية لتلك المبادئ، وأثبتت أنها قيادة حرة تقود شعباً حراً يمتلك قراره ويقرر مصيره ويضحي من أجله.
كما نوجه الشكر لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والذي بادر كعادته وكان أول من اتصل بالرئيس أردوغان ليلة الانقلاب، لتقديم دعم قطر للحكومة والشعب التركي، في لفتة إنسانية نبيلة تعمق الإخوة والصداقة المتينة بين البلدين.
سفير الجمهرية التركية في دولة قطر