ملاحظة حول قوله تعالى : ( نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ..) – البقرة 223
[ المعلوم من لغة الكتاب المجيد إنها لا تقبل الترادف ، وإن اللفظ فيها له معناً واحداً لا يتعدآه إلى غيره ] ، و قد فصلنا الكلام في ذلك فلا نعيد ، ومن أراد مزيد بيان فليراجع ذلك في محله .
[ كذلك و لا يقبل الكتاب المجيد التأويل الزائد أو الفائض عن الحد ، والذي يكون عبئاً على ظاهر الكلام ومعناه فيخرجه من سياقه الذي ورد فيه أو أراده ] ، و السياق : هو – وحدة الموضوع – المشار إليه في النص ليكون في نسق واحد مع ما قبله وما بعده ، ومن لوازمه عدم الإخلال بالمعنى ولا بالمبنى الذي وضع له أو إليه .
و لكي نفهم النص مورد البحث ، يلزمنا النظر في السياق الذي ورد فيه والنظر بما قبله ، يقول الله تعالى : – ( ويسألونك عن المحيض ، قل هو أذى فأعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) – البقرة 222 ، وأصل السؤال هنا يتمحور في صحة العلاقة الجنسية مع النساء أيام المحيض – متى وكيف – ؟ ، فكان النهي في الحالين وإن ذلك ممنوع وغير جائز – أي أن العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى أيام المحيض غير جائزة – ، مع الإحتفاظ بضميمة التصريح بالجواز مطلقاً في غير ذلك ، طبعاً هذا يكون – بشرط تحقق معنى الطهارة للمرأة من الحيض – ، والطهارة : – هي الشرط الموضوعي اللازم لصحة العلاقة الجنسية – ، وهذا ما دلَّ عليه أخر النص حيث قال : – إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين – ، وعموم الجملة الخبرية بيان وتعريف بأهمية التوبة والطهارة كموضوع في صيغة الجمع ، فالتوبة قيل في شأنها :
أن يكون المُراد منها متعلقها الدال على مخالفة النهي الوارد في صدر النص ، أو أن يكون المُراد من النهي الوارد هو الإمتثال لله وطاعة أمره ، وهذا هو الذي يحبه الله ويريد .
ونفس الشيء يُقال بالنسبة لمفهوم : – إن الله يحب المتطهرين – ، فالطهارة هنا مطلوبة بذاتها لذاتها والتأكيد من الله عليها لأهميتها ، والإشارة إليها تأكيد على أن : – صحة العلاقة من صحة الطهارة – ، وهذه الجدلية مضطردة ولازمة : أعني إن صحة العلاقة هذه مرتبطة بصحة طهارة المرأة من الحيض ، و لفظ الطهارة إن جاء مطلقاً دل على العموم في كل أمر ونهي أو شأن من شؤون الحياة المادية والمعنوية ، فمثلا ً حينما يقول الله تعالى : – كتاب مكنون لا يمسه إلاَّ المطهرون – الواقعة 79 ، فهو هنا لا يريد طهارة البدن أو الجسد بل يريد الطهارة الذاتية ( المعنوية ) مع أهمية الأولى ، فالطهارة المعنوية تعني الصفاء من الإنحراف والزيغ والنفاق ، و الطهارة في جميع الأحوال لازمة من لوازم الحياة ، وهي هنا جعلها الله واجبة في صحة العلاقة الجنسية وما يستتبع ذلك من أثار ونتائج
.
فيما تقدم كنا قد اشرنا إلى معنى و مفهوم – سياق النص – الذي ورد فيه ومعه قوله تعالى : – نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم …- ، ولفظ النساء إن جاء هكذا معرفاً فيكون بمعنى : – جمع إمرأة – ، وأما القول : بأن النساء تأتي من النسيء الذي هو الزيادة أو هو التأخير ، على وزن فعيل ويكون مصدرا ، قال تعالى : – ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) – التوبة 37 ، فهذا القول لا يستجيب للمعنى الذي يتحرك فيه النص ويريده ، والتعليل المتأخر بأن النساء إنما سميت كذلك لأنها تأخرت في الخلق من بعد خلق الذكور ، تعليل متهافت لا يصمد امام البحث والتدقيق ، بدليل أن الأناث لم تأت متأخرة من جهة الخلق بعد الذكور ، والمعلوم من جهة النصوص والآيات المجيدة : إنما تحدثت عن الخلق كوحدة واحدة غير مجزئة أو منفصلة شملت أسم الجنس آدم ، ولذلك جاء أصل الخلق تحت مسمى واحد هو – آدم كما قلنا ، قال تعالى : – إنا خلقناكم من ذكر وأنثى – الحجرات 13 ، وقال تعالى : – وبدأ خلق الإنسان من طين – السجدة 7 ، وقد ورد في خطبة الوداع قوله : – كلكم لآدم وآدم من تراب – ، أي إن الخلق في أصله عبارة عن مخلوق واحد أو من جنس واحد متشكل من ذكور وأناث وبأصناف وألوان متعددة ، وآدم هذا كما قلنا هو أسم جنس يشمل الذكور والأناث على حد سواء ، فهما إذن من مادة واحدة وليس هناك تقابل في الخلق كما تقول بعض مرويات أهل الكتاب عن حواء في البيَّن ، وأما القول : بأن الأناث خلقت بعد الذكور فهذا القول مردود من جهتي النص والإعتبار ، والأخبار الواردة في هذا الباب لا تصمد أمام النقد والتحليل .
ويجب التنويه هنا إلى أن لفظ – النساء – إذا جاء معرفاً فهو يعني خصوص الأناث حصراً ولا يشمل الذكور ، و هذا رد على ماذهب إليه البعض ممن تأولوا قوله تعالى : – الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض – النساء 34 ، جاعلين وظانين خطأً بان لفظ – النساء – هنا يعني الذكور والأناث معاً ، وهذا كما ترون وهمُ ومخالفة صريحة منهم للسان العرب ، نعم يصح هذا منهم فيما لو كان لفظ – نساء – جاء منكراً ، فالتنكير في لغة العرب يدل على العموم والإطلاق ، وعبارة – ( أو نسائهن ) – مثلاً حين تأتي هكذا ، فإنها تكون عامة مطلقة .
ولو سلمنا بمقالتهم هذه وأخذنا بها فهذا يعني دحض لما قلناه سابقاً وإلتزمنا به من مبادئ وأولويات ، حول :
1 – نفي القول بالترادف في الكتاب المجيد .
2 – ونفي التأويل الزائد والفائض عن الحد .
والراجح هنا في هذا النص – إن لفظ النساء – يعني خصوص الزوجات وليس معنى النسيء كما نُسب هذا القول إلى بعضهم .
ونعود لنسأل و ما معنى الحرث في النص ؟ ، ولماذا أستخدم هذا اللفظ هنا ؟ ، يقول العرب : إن الحرث من حرث يحرث حراثة ، على وزن فعل يفعل فعلا ، وهو فعل يقوم به الإنسان حين يريد أن يزرع شيئاً ما ، أي إنه الفعل الذي به تصير الأرض صالحة للزراعة أو يجعلها كذلك ، كان هذا هو الحيز الذي تستخدم فيه الكلمة ، ولكن اللفظ توسع في الأستخدام تبعاً لجملة أستخداماته الحياتية ، وقد جيء به هنا لوجود علاقة ذهنية ومعنوية معه في الدلالة .
نعم هناك ثمة علاقة بين لفظ الحرث وما تتطلبه صحة العلاقة الجنسية ، وإذا كان المدلول العام للفظ – حرث – يشير إلى ما يكسبه المرء من غلال ، فإنه حتماً لا يشير إلى الغلال نفسها كما توهم البعض ، ونفهم ذلك من قوله تعالى : – ويحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم – النساء 78 ، فالحرث هو تسوية الأرض لتكون صالحة للزراعة ، وأما الغلال فهو ما ينتج من هذه الأرض بعد حراثتها ، قال تعالى : – ومن كان يريد حرث الدنيا – الشورى 20 .
ولا بد من الإشارة إلى أن اللفظ إنما جيء به كصفة مشبهة من باب الإستعارة والمجاز ، وهو تشبيه بلاغي وظف هنا فيما يحصل للرجل و المرأة حال القيام بالعلاقة الحميمية ، والصفة المشبهة في لغة العرب جرى توظيفها بكثافة ، وهكذا فعل الله حينما جعل فعل المزارع حين يسقي زرعه بالماء شبيهاً لما يفعله الذكر بالأنثى ، قال تعالى : – أن أغدوا على حرثكم – القلم 22 ، أي تابعوا مصدر رزقكم ومايؤدي إلى نمائه وكثرته ، وحين يأتي الله بهذا اللفظ فهو يريد بيان الغاية من العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى وما ينتج عنها ، فهي بمثابة الزرع في المكان المهيء والمناسب لذلك ، ولا يخلو الكتاب المجيد من أدوات التشبيه والمجاز تلك ، لما لها من أهمية في تحرير الكلام وإخراجه من سكونه ونمطيته المملة ، كما هي عادة الجمل و الألفاظ المباشرة ، و التشبيه ليس قياساً قال دريد بن الصمة ذلك ، فيكون – الحرث – لفظ جيء به هنا من باب الإستعارة والمجاز ، وكما قلنا في البدء : بأن النص 222 من سورة البقرة ، قد ركز على مفهومي النهي أيام المحيض والإباحة عند الطهارة ، بحيث جعل من الإباحة رهنا بصحة متعلقها وهو الطهارة ، ثم جعل ذلك بمثابة الأذن العام لما يؤدي إليه الفعل وما ينتج عنه من نسل وذرية بشرطها ، إذن هو نهي من جانب وتقرير من جانب أخر فيما تصح به العلاقة الجنسية وفيما لا تصح به .
وإعتبار لفظ – أنى شئتم – إستثناءاً منقطعاً دالاً على الحصر في الحيز والمكان الذي يكون منه النسل والذرية ، وليس هو إجازة للفعل من القبل والدبر ، كما ذهب إلى ذلك نفر من المتفقهة على قول بالكراهة ، أو كما هو مذهب بعض الطوائف وممن هم في صنفهم وشاكلتهم من الشواذ ، و قاعدة النهي والمنع التي نتبناها قياسها تام يشمل كل ما سوى المباح من العلاقات الجنسية المنصوص عليها .
ولا يجوز بحال إعتماد – التأويل الزائد والفائض عن الحد – في إعتبار معنى النساء في النص 223 من سورة البقرة هو النسيء ، لأن ذلك تأويل وتبرير ومماطلة لا تخلو من عناد ، كذلك ولأن ذلك لا يستقيم مع طبيعة النص ومُراده ، ولو تتبعنا مجرى سير قوله تعالى : – إنما النسيء زيادة في الكفر – البقرة 37 ، فإننا سنجد هذا القفز على المعاني والألفاظ لا لسبب وجيه إنما لمجرد المخالفة ، وهذا كما ترون غير لائق من جهتي العقل والنقل ، كذلك هو خلاف صريح لكتاب الله ولسانه العربي المبين ، وأما التعليل الذي ذهبت إليه طائفة من المسلمين في معنى قوله – أنى شئتم – فلا يصح مطلقاً مع – الكيف – ، والذي يخرج معنى الطهارة من مضمونه ومعناه الذي وضع له ، وقد أخطأ أبن كثير في تبنيه وروايته لبعض الأخبار في هذا الشأن ، كما أخطأ الكثير من المتفقهة ومن رجال الدين الذين نعرفهم ، في إعتمادهم على أخبار ومرويات عارية من الصحة سنداً ودلالة ، وما قيل في صحة سندها فهو تبرير من جهة الوضاعين وما كان يُراد من تلك الأخبار ، ولم يتفرد أبن كثير في ذلك بل هي أخبار وجدناها عند البخاري وفي الكافي وفي كثير من الكتب التراثية ، وعليها أستندت فتاوى البعض من المتفقهة ممن أفتوا وقالوا بذلك !! ، وللمثال مارواه البخاري في ذلك ، قال حدثني يعقوب ، قال حدثنا أبن عُليَّه ، حدثنا إبن عون عن نافع قال : – قرأت ذات يوم ( نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ، فقال إبن عمر : أتدري فيم نزلت ؟ ، قلت : لا قال ، نزلت في إتيان النساء في أدبارهن – ، قال الطحاوي : حكى لنا محمد بن عبدالله بن عبد الحكم ، أنه سمع الشافعي يقول : – ما صح عن النبي في تحليله ولا تحريمه شيء ، والقياس أنه حلال ، وقد روى ذلك أبوبكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي عن أبي العباس الأصم سمعت محمد بن عبدالله بن عبدالحكم سمعت الشافعي يقول ، فذكره قال أبو نصر الصباغ .
ومارواه الطبري قال : – حدثني يعقوب ، قال حدثنا هشيم ، قال أخبرنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم ، قال : فقرأت ذات يوم هذه الآية – نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ – ، فقال : أتدري فيمن نزلت هذه الآية ؟ قلت : لا قال نزلت في إتيان النساء في أدبارهن – ، والمثير ان كتب الرجال أعتبروا هذه الرواية صحيحة سنداً ، لأن رواتها من الثقات ، فيعقوب هذا هو : – الحافظ أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي البغدادي ، قال عنه أبو حاتم : صدوق ، وقال النسائي : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الخطيب : كان ثقة متقناً صنّف المسند ، وقال مسلمة : كان كثير الحديث ثقة ، وأما هشيم فهو : هشيم بن بشر بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية ، وهو من الثقات الأثبات عند أهل السنة وممن اتفق الستة على إخراج حديثه ، وابن عون هو : عبد الله بن عون بن أرطبان المزني الخزاز البصري ، وهو كسابقه من الثقات الأثبات عندهم ، وهو ممن اتفق أهل الصحاح على إخراج حديثه ، أما نافع فهو مولى ابن عمر ، وقد وصفوه بأنّه ثقة ثبت فقيه ، وهو كالذين سبقوه ممن اتفق أصحاب الصحاح الستة على إخراج حديثه.
والخلاصة : إن تفسير الكتاب المجيد وقع فيه خللا كبيرا ، من خلال الإعتماد الساذج على مرويات وأخبار تتعارض وصريح الكتاب ، والمؤسف ان بعض من الفقهاء قد أفتى بالجواز من غير حتى ان يدقق أو يبحث أو يناقش ، إنما أسترسل في النقل عن الغير دون متابعة أو تصحيح وتدبر ، ومن هنا فقد أصاب الكتاب ما أصابه من تفاسير أوهنت الناس وشتت عليهم المعقول من المعاني ، وفي ملاحظتنا هذه أردنا التنوية والإشارة إلى إمكانية وضع حد لهذا التسويف ، وهذا الإعتماد على أهل التراث من غير نظر وتأمل ، وغايتنا هي البيان ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، وما توفيقنا إلاَّ بالله ..
16 ذي الحجة 1442 هجرية
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط