لأغوينهم أجمعين
579
القصة المعروفة التي حدثت في الملأ الأعلى في زمن ما، يوم أن خلق الله آدم عليه السلام، يمكن أن نستخلص منها الكثير والكثير. فقد ذكر ابن كثير في تفسيره بصورة مختصرة، أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشراً من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر، متى فرغ من خلقه وتسويته، فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله - عز وجل - فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنساً، كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته، فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خُلق من طين والنار خير من الطين في زعمه!.
وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه، وسماه «إبليس» إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة - وأبلس هو اليأس من الرحمة الإلهية، وهو الانكسار والحزن - فأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض، فسأل الله النظرة يوم البعث - أي الإمهال والخلود إلى حين - فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة، تمرد وطغى (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين)!.
أعلن إبليس العداوة منذ تلك اللحظة لبني آدم، فهو يدير معركته مع البشر إلى يوم القيامة، لا يهنأ ولا يهدأ حتى يسحب معه كل من صبأ عن ملته من ذرية آدم، إلى حيث قد تقررت نهايته هو، حيث جهنم وبئس المصير.
«سبعون ألفاً إلى الجنة بغير حساب»
كم هو مؤلم لإبليس ومن معه من أبالسة الجن والإنس أن يدخل الآلاف من ذرية آدم الجنة بدون حساب، وقد كرس جهده منذ بدء الخليقة للحيلولة دون وقوع هذا الأمر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن له من الحيل والطرق والوسائل، الكثير الكثير لينحرف بذرية آدم عن الصراط المستقيم، ويدفعهم نحو طرق ملتوية عديدة، لا يخرج السائر عليها سوى بالخسران المبين، وهو غاية إبليس ومن معه.
تأمّل معي الحديث الشريف الذي رواه البخاري في صحيحه، عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - يذكر صفات أوائل الداخلين إلى الجنة بقوله: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون».
لاحظ أن صفات السبعين ألفاً الأوائل الذين يدخلون الجنة بغير حساب، تتمثل في بعض من تلك الأعمال التي تخالف توجهات وهوى وخطط إبليس مع بني آدم، فمن الحقائق المعلومة أن أي عمل ضد توجهات ورغبات إبليس يقوم به أحدنا، تكون نتيجته إيجابية دون أدنى ريب.
لاحظ مثلاً أولى صفات أولئك السبعين ألفاً الداخلين إلى الجنة رغم أنف إبليس، أنهم لا يسترقون، أي لا يسعون إلى أحد يطلبون منه الرقية، هذا المجال الذي دخل فيه من دخل، ولعب فيه من لعب، مع الشيطان أو بدونه، حتى ضلّ كثيرون وتاهوا، بعد أن زاغوا عن منهج الله في عمل بسيط مثل الرقية.
الرقية لا شيء فيها، بل مطلوبة وفق ما هدانا إليه نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم - لكن بدلاً من أن يلجأ أحدنا إلى فلان وعلان ليرقيه، فالأفضل أن يبذل أحدنا جهده لأن يهتدي بسنة أولئك السبعين ألفاً، إنهم يرقون أنفسهم بأنفسهم، وقد قال علماء كثيرون بأفضلية رقية المرء لنفسه بنفسه، اقتداء بسيد الخلق والمرسلين، وقد جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله إذا آوى إلى فراشه، نفث على كفيه بـ»قل هو الله أحد» وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده»، تلك نقطة أولى حول موضوع الرقية التي وقفنا عندها قليلاً.
أما النقطة الثانية، وقبل البحث عن علاج لبعض الشرور ذات المصادر الشيطانية، كالسحر والحسد وما شابه، فإن علينا الوقاية منها أولاً عبر الأذكار اليومية الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة في الصباح وأخرى بالمساء كما يعلم الجميع، فإذا قدّر الله أن يُصاب الإنسان بشر من تلك الشرور، فالعلاج هو الرقية الشرعية المعروفة عنه - صلى الله عليه وسلم - يقوم بها المرء بنفسه، فذلك أدعى للإخلاص، ولأن ذلك دليل على تمام التوكل على الله وحسن الظن به، والتوكل إحدى صفات أولئك السبعين ألفا، بدلاً من السعي هنا وهناك بحثاً عن راق يرقي، سواء كان لوجه الله أم يعمل بالدرهم والدينار.
«قل أعوذ برب الفلق»
في سياق الحديث عن شرور إبليس الذي لا يكل ولا يمل، لاحظ معي في سورتي الفلق والناس، وهما من أواخر سور القرآن، أنك في السورة الأولى تستعيذ بالله مرة واحدة من عدة مصادر للشر، تستعيذ برب الفلق من شر ما خلق، سواء كان من الإنس أم الجن أم الحيوان، ثم تستعيذ به من شر غاسق إذا وقب، أي من كل ما يخرج بالليل من شرور سواء من الجن أم الإنس أم بقية الأحياء، ثم أخيراً تستعيذ من مصدر ثالث للشر متمثل في النفاثات في العقد، أي تلك الساحرات أو أهل السحر عموماً، وأخيراً تستعيذ بالله من شر كل حاسد إذا حسد. ذاك الحاسد صاحب النفس الخبيثة المحبة للسوء والشر للآخرين، الذي اعتبره القرآن من مصادر الشرور التي يجب على بني آدم الاستعاذة منه.
«من شر الوسواس الخنّاس»
ثم لاحظ معي أنك في سورة الناس يختلف الأمر، حيث تستعيذ بالله هنا ثلاث مرات ولكن من شيء واحد، عكس ما كان في سورة الفلق، تجد نفسك وأنت تقرأ سورة الناس، أنك تستعيذ برب الناس وملك الناس وإله الناس. من ماذا؟ من شر الوسواس الخناس.
إنه إبليس وبقية شياطين الشر معه ومن ضمنهم القرين الذين بين جنبيك، هذا الذي يوسوس لك بالشر والسوء ويزينهما لك على الدوام، دون كلل أو ملل، يأتيك بالخاطرة والفكرة ثم يزينها لك لتدخل مرحلة التخطيط، حتى تصل أخيراً إلى التنفيذ لتقع في الشر والخطيئة والذنب، وهذا غاية إبليس وذريته ومن معهم من الإنس كذلك!.
هل سيتركك بعد كل ذلك؟
بالطبع لا، ولن يهدأ هذا القرين، لأن هدفه ليس إيقاعك مرة أو مرتين أو ألفاً وألفين، بل أن يدخلك مع كبيرهم إلى قعر جهنم، تنفيذاً للوعـد الذي قطعه إبليس أمام الله وقبل أن يسكن البشر الأرض، أن يقعد لبني آدم كل مقعد، يزين لهم الشر والسوء وينحرف بهم عن جادة الحق والصواب.
ولأن الهدف الأسمى والأهم للوسواس الخناس الذي بين جنبيك لا يكل ولا يمل، هو أن يأخذك إلى تلك النهاية البائسة للإنسان، نجد أن الخالق عز وجل يدعونا ويحثنا على الاستعاذة منه ثلاث مرات في سورة قصيرة واحدة، على عكس مصادر الشر الأربعة سابقة الذكر في سورة الفلق، فتكفي مرة واحدة لصد شرورهم وأخطارهم، أما هذا الذي بين جنبيك، فكلما استعذت بالله منه أكثر، حماك الله وأبعدك ووقاك منه أكثر وأكثر.
نخلص من هذا الحديث الطويل، أن علاجك ووقايتك وأمنك وأمانك في صلاتك وقرآنك وسنة نبيك، كلما جعلتها من أساسيات ومحاور حياتك الرئيسية، حفظت نفسك من شرور الإنس قبل الجن، والله خير حافظ وهو أرحم الراحمين.