لكن، إذا كانت الليبرالية هي منظومة الأفكار (ومن وراء ذلك التشريع القانوني والتأسيس الإداري) القادرة على تغيير "واقع الحال العربي"، هذا الواقع الذي يُقِرًّ الجميع بمأساويته، فلماذا كان نصيبها الرفض؟
الرفض تجلى بإحدى صورتين، الصورة الأولى التي ظهرت بتعمّد تبخيسها أو تجريمها أو حتى تكفيرها في سياق هجائي يمتزج الجهل فيه بمعادة الإنسان أصالة، أي برؤية تختزل الإنسان، بتجريده من جوهره التحرّيّاتي، إلى مستوى وجوده المادي.
والصورة الثانية التي ظهرت بتعمّد الاحتفاء بها شَكلا ورفضها مضمونا، جرّاء عملية "تزييف" مفهوماتي يدّعي مُمَارسُوها، في سياق تبريرهم لتزييفهم، أنها عملية "تكيّف" ضرورية لِمُوَاءَمتها مع "الواقع العربي" المختلف إلى حد كبير عن "الواقع الغربي"؟
الحقيقة أن وراء صُوْرَتَي الرَّفض المشار إليهما آنفا، دوافعُ أو عوائقُ تمنع الوعي العربي من الاستجابة الطبيعية لمنظومة الوعي المعاصر: الوعي الليبرالي. وهي عوائق أو دوافع كثيرة، مُتواشِجة ومُتعاضِدة، غير أن أهمها، في اعتقادي، ما يلي:
أولا: الجهل المُتَفشِّي في عالمنا العربي. فالغالبية الساحقة من الجماهير هي "أميّة قرائيا"، واطلاعها على مسار التاريخ الحديث، وقائعَ وأفكارا، يكاد يكون معدوما. وبالتالي، فوعيها بمستوى كارثية واقعها معدوم، ووعيها بمسارات التقدم معدوم أيضا. ما يعني أنها لا تدرك أبعاد المشكلة، كما لا تدرك طبيعة الحلول الممكنة أو المقترحة.
وحيث الليبرالية شيء طارئ وجديد ومغاير للسائد النمطي الذي اعتادت عليه، فهي تركن إلى ما اعتادت عليه وألفته، ويستلزم هذا الركون التأكيد على الوفاء للمعهود؛ رفضا ومعاداة للطارئ الجديد، خاصة وأن هذا الجديد ذو نسب غربي؛ بكل ما يحمله "العالم الغربي"، في التصور الشعبوي الجماهيري العربي، من خطر على الأنا (تُغذّيه نظرياتُ المؤامرة)، ومن تفوّق ساحق يُثيرُ مشاعرَ الغيظ الساخط المشوب بالحسد الحارق. وكل ذلك ينتهي بالرفض، بل وبالكره العدمي الذي يتحول في الشعارات الهجائية إلى آلية ساذجة، غير واعية، للدفاع عن الذات.
ثانيا: الوعي الجمعاني العربي. وهذا له ارتباط بالعائق السابق، فبما أن الليبرالية حالة تطوّر أو تقدّم مفارقةٌ للحالات البدائية الأولى ذات الطابع الجمعاني، فإن التحول إليها يستلزم اكتساب وعي جديد غير جمعاني، أي يستلزم التحول عن الطبيعي أو التلقائي أو البدائي في الحياة الإنسانية، التي هي، في عمقها، حيوانية، إلى ما هو أعلى: متجاوزٌ للحيواني.
والمقصود أن الحالة الجمعانية (التي تقف الفردانية الليبرالية على الضد منها) هي حالة فطرية أولية أو حيوانية. فالإنسان، ولِمِئات السنين، عاش بفطرته الحيوانية كإنسان قطيعي، أي ينتمي، واقعا ووجدانا وفكرا، إلى "قطيع" لا يختلف في قليل ولا كثير عن القطيع الحيواني.
هذا ما يُشَكِّل طبيعة الإنسان الأولى، الطبيعة السائدة تلقائيا أو الفطرية. والخروج عنها، كما في نموذج التصور الليبرالي الذي يقف اليوم على قمة هرم التطور الإنساني، يعني تجاوز الطبيعي أو الفطري إلى مرحلة متقدمة أو متطورة، مرحلة ليست طبيعية ولا فطرية.
وهذا التجاوز الليبرالي المفارق تجاوز إرادوي واعٍ يتحدّى، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نسقا ثقافيا عربيا له تمدّداته الحيويّة في مُتَعَيّنَات الواقع التي لن يسمح سدنتها المُتَرَبِّحينَ من تَشَكّلها الجمعاني بتفتيتها إلى المُتَعيّنات الفردانية التي يشترطها التحوّل الليبرالي.
ثالثا: أن الظرف العربي طوال العصر الحديث الذي شهد اندياح النموذج الليبرالي في العالم، كان ظرفا مأزوما على مستوى القضايا المطروحة عليه. فهو كان يعيش ظرفَ هزائم ساحقة انتهت بالاستعمار، كما زامنت الاستعمار، ولم تنتهِ بنهايته.
كما يعيش ظرفَ تخلّفٍ ساحق، ارتسمت معالمه في الجهل والفقر والتشرذم وغياب التخطيط التنموي...إلخ صور التخلف. وهذا الظرف فرض عليه تحديد الغايات، وتحديدها يستلزم مواقف مبدئية من قضايا محددة، هي قضايا جانبية، ولكنها ساخنة، وقادرة على جذب الانتباه إلى أقصى درجة، بل إلى الدرجة التي تغيب معها بقية الغايات بوصفها مجرد مُلْهِيات.
الفكر الليبرالي، كما يؤكد الباحث، أشرف منصور، هو فكر يتيح تعددا في الغايات، إذ يرفض أن يعطي لأي غاية قيمة مطلقة أو فضيلة على بقية الغايات (الليبرالية الجديدة، أشرف منصور، ص58). والظرف العربي قد فرض على العربي أن يضع غاياته أولا، فرض عليه أن يتخذ مواقفه التي توجه مسار تطوره قبل أن يفكر في مسار التطور ذاته. ومن حيث هي قضايا وغايات مبدئية، وبالتالي، ذات قداسة ، فهي، بالضرورة، ذات طابع جمعاني، يَفُتُّ التوجهُ الفرداني الليبرالي في عضدها.
وفي هذا السياق، وإذ لم تكن الأولوية للإنسان، وتحديدا الإنسان في وجوده المتعين: الفردي، بل الأولوية كانت لما هو عكس ذلك، فمن الطبيعي أن ينظر العربي إلى الليبرالية بوصفها لا تخدم قضاياه المصيرية أو أولوياته، هذا إنْ لم يَرَها تقف موقف الإيديولوجيا المناهضة لما يراه أولويًّا ومَصِيريًّا.
رابعا: الأيديولوجيات الرائجة في التاريخ العربي أو الإسلامي الحديث كانت أيديولوجيات جمعانية كُلْيَانية بشكل واضح. وعلى وجه التحديد، فإن أكبر إيديولوجيتين: العروبوية والإسلاموية أو الأصولية (الإسلاموية بفرعيها: السلفي التقليدي، والسلفي الحركي)، وقبل أن يُعَادِيا التوجّهَ الليبرالي بشكل حاد وصريح، كانا على الضد والنقيض منه واقعا، فهما قد استثمرا في المسارات الجمعانية الرائجة فكريا ومجتمعيا، واندمجا فيها، وأعادا التأكيد عليها، بل لقد قاما بإنتاج هذه المسارات في صور كثيرة تتجاوز حضورها الأولي في الوعي العام.
خامسا: العوائق المؤسساتية، المدنية والدينية، ذات التأثير النافذ في مُتَغيّرات الواقع. فكل هذه المؤسسات، إلا ما ندر، تقف عائقا ضد تمدد التصورات الليبرالية على مستوى الرؤية والمُتَغيّر النظري، كما على مستوى الفعل والمُتَغيّر العملي. وفي إعاقتها للحل الليبرالي نجد أنها تنقسم إلى قسمين من حيث دوافعها في هذا المجال:
منها مؤسسات ترى أن الحل الليبرالي، بكل لوازمه الضرورية وبكل متتالياته المتوقّعة، ليس في صالحها، إما من حيث هي مؤسسات ذات مصالح عامة سَيُقَوِّضُها الحلُ الليبرالي، وإما من حيث هم أفراد مُتنفّذون في هذه المؤسسات، يدافعون عن مصالحهم الخاصة من خلال الدفاع عن المصالح العامة لمؤسسة ارتبطوا بها ماديا ومعنويا.
ومنها مؤسسات تُعِيق الحلَ الليبرالي بعجزها، أي إعاقة سلبية؛ من حيث هي مؤسسات ذات بُنْية تقليدية. ومن حيث هي كذلك؛ فإنها غير قادرة، حتى لو أرادت، على أن تشتغل ليبراليا. ثم هي لا تكتفي بهذا الموقف السلبي، أي عدم الاشتغال على تفعيل الحل الليبرالي، بل نجدها تشتغل بالاتجاه المضاد، ما يعني إقصاءً واسع النطاق لكل صور التمدد الليبرالي في كل الدوائر التي يصل إليها نفوذ هذه المؤسسات وتأثيرها.
سادسا: ينتج عن كل ما سبق من عوائق رأيناها في النفوذ الفكري والديني والاجتماعي والمؤسساتي...إلخ، أن تسود حالةٌ من طغيان القيم المناهضة للقيم الليبرالية في الواقع.
وحين يصبح الواقع على هذه الحال، وخاصة في مستويات التأثير الجماهيرية، فإن "الفاعل الاجتماعي" أيا كان نوعه، سيجد نفسه أمام إغراء شديد الجاذبية: إغراء استثمار رأس المال الأغلى في المجتمع، أي أنه سيستثمر، ماديا ومعنويا، في الرائج جماهيريا؛ لأنه هو، بالنسبة له، المجدي.
وفي المقابل، سيقطع مع كل مفردات الحل الليبرالي التي تُبْعِده عن الاستثمار المجدي. وحينئذٍ؛ سيزداد مستوى النفور من الحل الليبرالي لحساب الحلول المضادة: الجمعانية. ما يعني مزيدا من إغراء الاستثمار في الجمعاني على حساب الليبرالي؛ وهكذا دواليك؛ حتى تستحكم حلقات مَحْو الإنسان في مستوى وجوده الحقيقي: الفرد المُتَعيّن في الواقع والفرد الليبرالي.