خنفس باشا بين يوليو 1882 ويوليو 2013
عندما نرجع بصفحات التاريخ المصري أكثر من 130 عاما ونتوقف مع تموز/ يوليو 1882 نتعجب للتشابه مع تموز/ يوليو 2013.
في تموز/ يوليو 1882 نجد أحمد عرابي الفلاح الشرقاوي الذي يتطلع إلى حرية واستقلال مصر. وفي 2013 نجد د. محمد مرسي أيضا الشرقاوي المتطلع لحرية واستقلال مصر كأنه فيلم أو كابوس يتكرر.
كان أحمد عرابي مملوءا بالحماس واثقا من النصر، فأسرع بقواته إلى كفر الدوار لمواجهة الإنجليز بعد احتلالهم الإسكندرية في تموز/ يوليو 1882.
ولكن مع حماسة عرابي كانت الخيانة مختبئة له، فقد أرسل عرابي إلى ديليسبس لمنع مرور الإنجليز من القناة، ولكن ديليسبس طمأنه إلى الشرعية الدولية وحياد القناة وأنه لن يسمح، ولكنه تآمر مع الإنجليز وسمح لسفنهم بالعبور كي تتوجه لحرب عرابي، واستعان الإنجليز بـ"المواطنين الشرفاء" من البدو في الصحراء لإرشادهم.
كانت الخيانة تتحرك في تموز/ يوليو 1882 بكل قوة، وكان عرابي مطمئنا بأن الجيش مع الشرعية، ولكن خنفس باشاكان يدير مؤامرة انقلاب مع الضباط سعود الطحاوي وعبد الرحمن حسن وغيرهم، وعمل كل طرف في الانقلاب بسرعة في مهمته. فقد ذهب الضابط سعود الطحاوي إلى عرابي في خيمته يطمئنه، ويقسم له أنه لا انقلاب وأنه معه للحفاظ على شرعية الاستقلال لمصر، وأن الإنجليز لن يهجموا قبل أسبوع على الأقل. ثم يتسلل الطحاوي بخفة الثعبان إلى صفوف الإنجليز ليرشد طلائعهم في صباح اليوم التالي إلى كيفية تدمير اعتصام أحمد عرابي.
أما عبد الرحمن حسن فقد كان قائد فرقة السواري في الحرس الجمهوري، وكان على اتصال دائم بالإنجليز، فتحرك بجنوده تحت جنح الليل بعيدا عن أرض المعركة ليمر الجيش الإنجليزي في سلام.
أما خنفس باشا فيسجل التاريخ له موقفا عجيبا في الخيانة، فقد وضع مصابيح في الطريق كي ينير الطريق لعسكر الإنجليز. كل ذلك جعل القائد الإنجليزي الجنرال ويلسي يطمئن إلى أن المصريين المعتصمين مع عرابي سينامون ليلتهم نوما هنيئا بدون أي شكوك، بعد أن قام الخونة بدورهم في طمأنة المعتصمين. ويطفئ جيش الاحتلال أنواره للتضليل ويخيم الظلام الدامس، ويزحف 11 ألفا من المشاة و2000 من الفرسان وستون مدفعا.
ولك أن تتخيل المشهد أن الضابط سعود الطحاوي المصري في المقدمة يرشدهم إلى الطريق، ولم يكن يؤدي هذه المهمة وحده، بل كان يعاونه بعض العسكر من المصريين الذين خانوا واجبهم وتحالفوا مع الشيطان مقابل حفنة من الجنيهات الذهبية والوعد من القوة الدولية بالحماية.
اكتملت المؤامرة بينما أحمد عرابي مطمئن في خيمته يقرأ الأوراد والأدعية، مطمئنا ﻹخلاصه في دفاعه عن مصر، مدعوما بالوطنيين وفتاوى العلماء؛ لأنه يدرك أنه يوجد خطر على مصر وهو لن يترك بلده يُحتل من الإنجليز، فجمع الجنود المتطوعين المتحمسين للحفاظ على استقلال بلاده وحريته، وتجمعوا في اعتصام التل الكبير على امتداد ستة كيلومترات، وانتشروا داخل الخنادق وأقاموا الاستحكامات المقامة من الرمل والطين. وكان منهم من يحمل سلاحا وكثيرون لا يحملون شيئا.
وفي فجر يوم 13 أيلول/ سبتمبر انطلق ستون مدفعا و11 ألف بندقية وألفان من الحراب؛ تقذف الهول والموت والفزع في الجند النائمين الذين قاموا على صرخة واحدة لا يعرفون أهي القيامة أم بركان انشقت عنه الأرض، أم الإنجليز. تفرق المصريون يبحثون عن مهرب، فلا أحد كان يتوقع الخيانة. ووقتها لم يتم تصوير المشهد، لكن بعد 130 عاما كان المشهد يبث مباشر والعالم يشاهد ويتفرج.
كان عرابي لا يزال بخيمته يصلي الفجر على ربوة قريبة حين باغته الهجوم وسقطت قذيفة مباشرة على خيمته، فتركها للنيران.
وهنا روايتان في التاريخ؛ الأولى أنه قبض عليه الإنجليز وهو يشرع في ارتداء حذائه، الثانية أنه استجمع شجاعته وأسرع وامتطى جواده ونزل في ساحة المعركة، فأذهله أن رأى جنوده يفرون، ووقف يحاول عبثا جمعهم. ولكن التيار كان جارفا، وقد ضاع صوته عن الثبات للاستقلال والحرية بين انفجارات القنابل وطلقات الرصاص.
إنه هول الخيانة والمفاجأة، وكادت المدافع تصيبه لولا أن خادمه لوى عنان فرسه قهرا عنه، فأنقذ حياته. وانطلق يعدو بجواده إلى بلبيس، ليحاول عبثا أن يقيم خطا ثانيا للدفاع عن القاهرة، ولكنه قُبض عليه.
غربت شمس ذلك اليوم خلف التلال.. كانت الدماء التي تخضب رمال الصحراء والميدان، تشكو إلى ربها مرارة الخيانة. وكانت الذئاب قد أقبلت تنهش الجثث التي ملأت الخنادق التي أقامها الفلاحون المصريون من الرمل والطين والدماء. وجاء المصورون الإنجليز يلتقطون صورا تذكارية لجثث الفلاحين المصريين لنشرها في صحف لندن، للتباهي بالنصر الوضيع. وخرج إعلام الشؤون المعنوية (صحيفة الأهرام) يزف خبر القضاء على الخائن عرابي هو وإخوانه!!!
أما أطراف الانقلاب الخونة الذين باعوا وطنهم فقد اختلفوا على "الرز"، حيث قد كتب خنفس إلى الإنجليز يتظلم لأنه أخذ ألفين فقط ولم يأخذ عشرة آلاف، مثل الليبرالي الكبير سلطان باشا، رئيس مجلس النواب المحكمة الدستورية للاحتلال.
ويبقى مشهد مهم في تلك المرحلة لرموز الحالة الإسلامية؛ ثلاثة شيوخ من الأزهر وهم الشيخ عليش والعدوي والخلفاوي، جهروا بكلمة الحق، وأعلنوا خيانة الخديوي توفيق لمساعدته اﻹنجليز في ضياع سيادة مصر واحتلالها. ولكن تم اعتقالهم كعادة الظلم في مصر وتقديمهم للمحاكمة، كما حدث بعد 130 عاما.
ورغم ما حدث من انقلاب وهزيمة عرابي وقتل المعتصمين معه وسيطرة الإنجليز والخونة، لكن الشيوخ الثلاثة لم يتراجعوا عن موقفهم وكلمة الحق، وسجلوا موقفا سجله التاريخ من نور في تلك الصفحة السوداء. وتشكلت لهم محاكم هزلية من قضاة الاحتلال والظلم فسُجنوا، ومنهم من مات في سجنه صابرا محتسبا.
وتمت محاكمة عرابي ورفاقه لأنه كان شريفا دافع عن مصر ضد المحتل، وحكمت محكمة الانقلاب بالإعدام على عرابي، ثم تم تخفيفه بالنقض إلى النفي. وانتهى المشهد كله على احتلال الإنجليز لمصر سبعين عاما، ولم يتركوها إلا بعد أن سلموها للطحاوي والأطرش وخنفس باشا الجدد، ليعيدوا وزملاؤهم وأتباعهم إنتاج الانقلاب ضد كل من يتحمس ويدافع عن مصر واستقلالها في تموز/ يوليو 2013.. ولكن عاد عرابي من المنفي مهزوما، وبقي محمد مرسي صامدا في سجنه حتى توفاه الله، رحمه الله، لكن ما زال خنفس والطحاوي والأطرش يحكمون.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
"عربي21"