تعبيــر
سهـــام جاســم عندما كنا صغاراً كان من الصعب على أغلبنا أن يكتب بضعة سطورٍ يطلبها مدرس اللغة العربية الذي كان يحاول جاهداً أن يجعلنا نتخيّل ونستعين ببعض الجمل من دروس المطالعة أو نلتمس العون من القصص التي يكرر سردها باستمرار والصور التي يعرضها علينا الصورة تلو الأخرى راجياً أن يفتح لدينا شيءٌ من ذلك أُفقاً من آفاق الخيال أو يكون مُحفِزاً لأساليب التعبير وباعثاً لتدفق الأفكار...
ثمّ بعد كلّ تلك المحاولات يحوّل الأستاذ موضوع التعبير إلى فرضٍ منزلي ليُعبِرعوضاً عنّا أحد أفراد الأسرة، بعضنا كان يقوم بذلك في كلّ مراحله الدراسية فالمشاعر موجودة وكذلك الأفكار، لكننا لم نكن لنحسن الوقوف عليها، بينما نجد بيننا ذلك الطالب الذي يماثلنا في العمر ولكنّه يستطيع لأن الفكرة والإحساس أكثر وضوحاً لديه ومن الممكن الكتابة حولهما وأمّا الخيال فله ذلك المدى البعيد أبعد من ظله الصغير بكثير، بينما البقية لم تزلْ الأمور لديهم غامضة وغير قابلة للخوض فيها بل لا توجد هنالك أدنى حاجةٍ للتعبيرعنها لذا تجدهم يرددون الجمل المألوفة ويحفظون مواضيع الإنشاء المتوقعة للاختبار حيث كان موضوع التعبير أشدّ ما يُقلق ويخيف بعضهم لأنّهم يعرفون الشيء الكثير عن أنفسهم لكنّهم لا يُحسنون التعبير كتابةً عنها وفي ذلك إحساسٌ مبكر بصعوبة الأمر - التعبير كتابةً عن أمرٍ ما...
«العين تستطيع أن تُحيط، ولكن اللسان لا يستطيع أن يُعبر» هذا ماقاله توفيق الحكيم في أحد الأيام ولنضع القلم بديلاً عن اللسان ليتناسب مع موضوعنا لهذا اليوم...
ذلك على الرغم من أنّ حديثنا عن التعبير يدور حول تلك المواضيع المُيسرة والخالية من التعقيد لكنّها على الرغم من ذلك تؤرق بعض الصغار بل مجموعة كبيرة منهم بينما يتحمس لها عددٌ قليل يُقارب الندرة في إجادته لذلك...
إنّ أحدنا ليمتلئ بالحياة بمجرد خوضه لأولى تجاربه فيها فتشعر بتدفق روحه في مساربها برقة وتلقائية على الرغم من بساطة أدواته التي يستخدمها في معرفتها إلا أنّك ترى أثراً لذلك ترسمه خطواته على دروبها وقد بدأت الأفكار والمشاعر والرؤى والمُخيّلة في تحديد هويتها وهي بعد أبعد ما تكون عن النضج أو الاكتمال لكنّها تمثل أمراً ذا انعكاسٍ مختلفٍ لديه يتوق أن يأخذ دوره بشغفٍ في التعبير فيغدو كنقشٍ صغيرٍ على حجرٍ كبير لمتعلمٍ مازال في الصغر...
بعضنا يكفيه من مشاهد الحياة عدة لقطات لتدفعه للإخبار والتعبيرعنها بجرأةٍ مكونةٍ لديه قُدرة ملائمة على الحكي والإفصاح المبكرعن الذات ثمّ تتحوّل هذه القدرة إلى حاجةٍ ماسةٍ ومُلِحة تبحث عن قالبها الفني الملائم الذي تُصاغُ فيه ثمّ مع انقضاء سنوات العمر تغدو كصلصالٍ فوق قاعدة مستديرةٍ تدور بسرعةٍ خاطفة ليأخذ حظّه في التَشكيل بين يدي حرفي مبدع يتقن كيف يهبُّ الجمال لتحفته ببراعة...
والحاجة حين تنوي التعبير عن نفسها من المستحيل أن تتواءم مع شيء آخر عدا الصدق آخذةً في البعد كلّ البعد عن التصنع...
يبدو أنّ ما كان يحدثُّ في درس التعبير أسقط بظلاله هو الآخر على الحياة، لنجد أنّ الدرس مستمرٌ في طرح نفسه عبر مختلف فصولها وبالكيفية نفسها ولكنّه آخذٌ في الاتجاه نحو عمقٍ آخر أعمق بكثير من طرحه الأول...
كلمـــــة أخيــــــرة
الصفحات