إن المفاوضات السياسية يجب أن تعتمد على البحث العلمي الذي يوفر معرفة البيئة الدولية التي تتم فيها المفاوضات، ومصادر قوة الأطراف والبدائل المختلفة.
وبدون ذلك البحث العلمي فإن المفاوضات يمكن أن تتحول إلى لعبة لا معنى لها، وتنتهي بالإخفاق؛ ولذلك فإن الدولة التي تريد تحقيق أهدافها عن طريق المفاوضات يجب أن تستعين بدراسات متعمقة ومتعددة الأبعاد والمجالات.
التخطيط للمفاوضات
والبحث العلمي يشكل الأساس للتخطيط للمفاوضات، وبدون خطة واضحة تبدأ بتحديد الأهداف يدخل الوفد المفاوض بدون وعي، ويكون سلوكه ضعيفا لأنه يتصرف كرد فعل لما يحدث خلال المفاوضات.
والخطة المبنية على البحث العلمي تساعد في زيادة القدرة على اتخاذ القرارات خلال المفاوضات، فقد أوضحت دراسة الكثير من المفاوضات الدولية أن الوفد يستطيع اتخاذ قرارات تتناسب مع خطته، وتحقق أهدافه كلما كانت خطته مبنية على فهم عميق لأنواع القوة في المفاوضات، وقدرة الوفد على توظيف مصادر قوة دولته.
وربما تكون أهم نتائج تلك الدراسة أن نجاح المفاوضات يعتمد على المعرفة وتوظيفها للحصول على النتائج التي تريدها الدولة.
كما أن البحث العلمي يجعل الدولة قادرة على تحقيق الشفافية، حيث توضح لشعبها بشكل مستمر المعلومات الكافية عن إدارة المفاوضات ونتائجها؛ ولذلك ترتبط المعرفة التي تبنى عليها المفاوضات بقدرة الدولة على بناء الرأي العام المؤيد لها لأنها تستطيع أن تقدم له الحقائق.
والدولة التي تتعمد إخفاء المعلومات وفرض السرية على المفاوضات والاستمرار فيها لوقت طويل دون تحقيق نتائج؛ تكون قد دخلت هذه المفاوضات دون معرفة، ففوجئت بمواقف لا تستطيع اتخاذ قرارات صحيحة فيها.
مفاوضات السد الإثيوبي نموذجا
تشكل مفاوضات السد الإثيوبي -بين مصر والسودان من جانب وإثيوبيا من جانب آخر- نموذجا يوضح أهمية البحث العلمي كأساس للمفاوضات.
فمن الواضح أن افتقاد المعرفة المبنية على البحث العلمي في مجالات متعددة كانت من أهم أسباب الإخفاق في هذه المفاوضات التي استمرت لسنوات، ولم تستطع مصر والسودان اتخاذ قرارات في المراحل المختلفة للمفاوضات.
ومن البداية كان يمكن أن يوفر البحث العلمي لصناع القرار في مصر والسودان القدرة على اتخاذ القرار الصحيح برفض اتفاقية المبادئ، فالموافقة على تلك الاتفاقية تعني ضياع مصادر قوة مصر والسودان في المفاوضات، وتحويلها من مفاوضات سياسية إلى مفاوضات فنية حول مدة ملء الخزان، وفي هذه الحالة فإن إثيوبيا التي حصلت على كل ما تريده أصبحت تتحكم في إدارة المفاوضات وتفرض أجندتها.
ولأن إثيوبيا أصبحت في يدها موافقة مصر والسودان على إنشاء السد بدون شروط؛ فقد أصبحت تتصرف من موقع القوة وعدم إعطاء أي اهتمام لحقوق الدولتين أو الآثار الكارثية التي يمكن أن تتعرض لها مصر والسودان.
فكيف تم اتخاذ القرار بالموافقة على اتفاقية المبادئ التي تتضمن القبول بإنشاء السد بدون شروط؟
وما الأساس العلمي الذي بُني عليه القرار؟ ولماذا ترفض مصر والسودان حتى الآن الكشف عن الحقائق؟
من ضعف إلى قوة
يوضح نموذج مفاوضات سد النهضة كيف يمكن أن يتحول طرف من موقع الضعف إلى موقف القوة في المفاوضات عندما يحصل على ما يريده، فإثيوبيا كانت في موقف ضعف قبل توقيع اتفاقية المبادئ لأنها تحتاج إلى موافقة مصر والسودان للحصول على التمويل اللازم لبناء السد من البنك الدولي ودول العالم.
وبمجرد أن حصلت على هذه الموافقة أصبحت في موقف قوة وحققت أهدافها، وأصبح كل ما يهمها هو التفاوض إلى ما لا نهاية حتى يصبح السد أمرا واقعا، وعلى مصر والسودان القبول بما تعطيه لهما.
كما تحول موقف مصر والسودان من موقع القوة إلى موقف الضعف والعجز؛ ولذلك أصبح الخطاب المصري يدور حول البحث عن بدائل للنيل مثل تحلية مياه البحر والمعالجة الثلاثية لمياه الصرف الصحي، فهل يعني ذلك التسليم بالإخفاق والعجز عن إدارة الصراع؟
البديل الوحيد
هذا النموذج يوضح أيضا أن المفاوضات تفشل عندما يعلن طرف أنها الخيار الوحيد، ويتم استبعاد كل الوسائل من إدارة الصراع.
ولقد سبق أن اتضحت خطورة ذلك في تجربة السادات في المفاوضات مع إسرائيل عندما أعلن أن "حرب أكتوبر" هي آخر الحروب، فاستطاعت إسرائيل أن تكسب وحدها بينما كانت مصر الطرف الخاسر، وحققت إسرائيل عن طريق المفاوضات ما أخفقت في تحقيقه عن طريق الحرب.
ولقد قدم السادات لمناحيم بيغن -رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت- الفرصة لفرض شروطه، والتحكم في نتائج المفاوضات وانتزاع ما يريده عندما أعلن عن استبعاد الحرب كوسيلة لإدارة الصراع، والاكتفاء بالمفاوضات لتحقيق سلام حتى لو جاء طبقا للشروط الإسرائيلية.
لقد أوضح ذلك النموذج أن الدولة لا يمكن أن تحقق أهدافها عن طريق المفاوضات إذا لم يكن لها بدائل أخرى يمكن أن تستخدمها في حالة الإخفاق، وأن عدم وجود بدائل أخرى يعني أن الدولة هي الطرف الضعيف الذي يجب أن يقبل النتائج التي تحقق مصالح الطرف الآخر.
إن الدولة التي تستبعد البدائل وتعتمد على المفاوضات خيارا وحيدا تخسر، بينما الطرف الآخر يكسب.
هذه قاعدة مهمة تتضح صحتها من دراسة الكثير من المفاوضات، وخاصة المفاوضات المصرية الإسرائيلية، ومفاوضات أوسلو، وبشكل عام كل المفاوضات التي أدارتها الدول العربية مع إسرائيل.
منطق "الفهلوة"
نتيجة أخرى مهمة يمكن أن نكتشفها من دراسة المفاوضات؛ وهي أن الدول الديكتاتورية تحتقر العلم، فقد كان جمال عبد الناصر يرى أن السياسة " فهلوة " وليست علما، ويستنكر تدريسها في الجامعات.
و"الفهلوة " كلمة مصرية عامية تشير إلى استخدام أساليب الحيلة والدهاء والمكر والخداع، وهي تقترب من مفهوم البلطجة الذي انتشر استخدامه كوسيلة لحسم الصراعات الداخلية في المجتمع وتزوير الانتخابات ومساندة الاستبداد وفرض الخضوع للواقع بالقوة.
و"الفهلوة" و"البلطجة" نقيض العلم الذي أصبح احتقاره يشكل السمة المميزة للسياسيين الذين يرفضون وجود أية علاقة بين السياسة والأخلاق.
سياسة "الفهلوة" و"البلطجة" تقوم على احتقار العلم، واعتباره معوقا يقلل القدرة على تحقيق الإنجازات السريعة. فالبحث العلمي يعني إضاعة الوقت.
والتعامل مع السياسة باعتبارها "فهلوة" في عهد جمال عبد الناصر -صاحب هذا المفهوم ورائد استخدامه- كان نتيجته هزيمة 1967.
ومن الواضح أن مفاوضات السد الإثيوبي اعتمدت منذ البداية على مفهوم "الفهلوة"، حتى في استخدام اسم السد، واعتماد اسم سد النهضة "مكايدة ونكاية" بالتيار الإسلامي الذي يستخدم المصطلح (النهضة) لوصف مشروعه لإصلاح المجتمع وإدارة كل موارده المادية والبشرية لبناء القوة في كل المجالات، وتوظيف الثروات لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والكفاح لكسر التبعية.
وهذا الاسم ليس من بنات أفكار الإثيوبيين الذين أطلقوا عليه سد الألفية، فلماذا قاموا بتغيير الاسم إرضاء للعلمانيين المصريين الذين أرادوا بذلك دفع الشعب المصري لكراهية هذا المصطلح؟
لا داعي للقلق
بالرغم من أن الخطاب العربي والدولي أصبح يقوم خلال العقود الماضية على التعبير عن القلق في الكثير من الأحداث خاصة عندما تقوم إسرائيل بالاعتداء على الشعب الفلسطيني؛ فإن الخطاب في قضية السد الإثيوبي -الذي لا يمكن أن يكون سدا للنهضة بل هو سد للخراب والدمار وتجويع المصريين وتعطيشهم- اعتمد على أن حصة مصر لا يمكن المساس بها فلا داعي للقلق، وأنه عليكم أن تطمئنوا تماما، فقادة الدول الثلاث جلسوا وتكلموا واتفقوا وليس هناك مشكلة على الإطلاق، و"كل شيء انكشف وبان" بصوت أحمد راتب في مسرحية ريا وسكينة.
ثم تحول الخطاب إلى مطالبة الشعب المصري بالثقة والاطمئنان فالمستقبل يزداد ازدهارا.
لكن الحقيقة الواضحة التي يراها الشعب المصري أن المفاوضات فشلت منذ زمن طويل، وأن خطة إثيوبيا في الملء الثاني للسد بدأت، وعلى مصر أن تبحث عن بدائل للحصول على المياه من المعالجة الثلاثية للصرف الصحي.
أما التهديد الوحيد الذي استخدمته مصر فهو فتح المجال لهجرة الملايين إلى أوروبا لإرغامها على مساندة الموقف المصري، والتوسط لحل المشكلة.
وهذا النموذج يوضح أن إدارة الصراع علم يشارك في تطويره الكثير من العلوم، وأن البحث العلمي هو الذي يشكل الأساس لتحقيق الدول لأهدافها عن طريق المفاوضات.
ومن المؤكد أن مدرسة وزارة الخارجية المصرية تضم الكثير من الخبرات والكفاءات، وهؤلاء يدركون أهمية البحث العلمي كأساس للمفاوضات، وقد سبق أن استخدموا البحث العلمي في مفاوضات "طابا"، ونجح العلماء في جمع الوثائق وتحقيق النجاح في مفاوضات شاقة، فلماذا لم يطالبوا باستخدام البحث العلمي في هذه المفاوضات؟
كما أن الديمقراطية تزيد قدرات الدولة على إدارة مفاوضات ناجحة بالاستناد إلى رأي عام ومجالس نيابية ومعارضة قوية؛ فتلك هي الضمانات الحقيقية لمصالح الدولة العليا.
أما الصحافة الحرة فإنها تحمي المجتمع من مخاطر اتخاذ قرارات في الصراعات الخارجية يمكن أن تهدد حقوق الدولة وحياة شعبها، فأين صحافة مصر من الكارثة التي تهدد وجودها؟ ولماذا لم تستطع أن تكشف الحقائق للشعب المصري في الوقت المناسب؟ ولماذا لم تستطع أن تقوم بوظيفتها في الوفاء بحق الجماهير في المعرفة وحماية مصر من الخطر؟!
كان يمكن أن تسهم الصحافة الحرة في ترشيد عملية إدارة الصراع منذ البداية، وأن تفتح المجال للعلماء ليقدموا دراسات متعمقة من أهم مجالاتها تاريخ الصراع حول النيل والاتفاقيات السابقة والمخاطر الناتجة عن السد الإثيوبي.
إن هذه الدراسات العلمية يمكن أن توضح أيضا أن الخطر يمكن أن يهدد العالم كله، وأن المصريين لن يستسلموا لمصيرهم المحتوم، ولن يموتوا جوعا وعطشا وهم صامتون، وأن المفاوضات ليست البديل الوحيد.